بينما أهرب|| Intro
CH1||مرأة مُلفِتة ورَجُلٌ عابِر
CH2|| خلق الأقدار الجميلة
CH3||الرجل الذي لا يخاف
CH4||الكتوم والآنسة الباكيّة
CH5||فضول إعجاب أم حُب
CH6||الكُره وأشياء أُخر
CH7||وجعٌ أُغنّيه
CH8||حُب العندليب
CH9||كيوبد مُتهوِّر
CH10||ملاكه الحارس
CH11||حُب الشلَّال
CH11||حُب الشلَّال
وو ويفان (العندليب)

بطل:

العندليب والبرّيّة|| Orpheus

"حُب الشلَّال"

...

لقد خِلتُ أنَّني فعلتُ الأمر الصحيح حينما تحدَّيتُ الزعيم وابنه، ولكن يبدو أنَّني لم أفعل، الآن سأواجه غضب ويفان، ثم سيكون علي مواجهة خيبة الناس منّي، لقد رفعتُ آمالهم وجعلتهم يتمرَّدوا على مولاهم من فراغ.

في النهاية؛ أنا لن أستطيع مُساعدتهم...!

-لن أذهب إلى أي مكان، سأبقى هنا سيد ويفان!

صِحتُ بتلك بوجهه وأنا أختبئ خلف ظهر لوهان، لو كان علي مواجهته وحدي لا أدري ما كان الذي سيحصل؛ لكن ويفان ليس لطيفًا حينما يغضب رغم أنَّ مزاجه صيفي هادئ.

تنهَّد وأشاح بوجهِه الغاضب عني، يبدو أنَّهُ أدرك أخيرًا ما كان الذي سيقترفه بحقي لولا لوهان؛ كاد أن يحرقني.

- هل كنتَ ستهدأ لو أنَّكَ أحرقتني!

لاك فكيّه بندم وهمس بصوتٍ مُنخفض.

- الحساء ليس ساخنًا كفايّة ليحرقك!

خرجتُ من خلفِ ظهرِ لوهان، شعرت أنَّهُ هدأ وأصبح قابلًا للتوبيخ، رغم أنّي من أستحقه هنا؛ إذ عضَّدتُ عِضدَاي إلى صدري، ونبستُ في إستنكار.

- وتتعذَّر أيضًا!

نظر إليَّ بسخط، ثم أشار إليّ وهو يتحدَّث إلى لوهان بعصبيّة.

- حينما تُغادر خُذها معك، لا أُريدُ رؤيتها مُجدَّدًا.

نظر إليَّ لوهان؛ لكنَّ صورته كانت مشوَّشة في عيني؛ الدموع تشوِّش بصري. تنهَّد ثم ربَّت على كتفي وقال.

- اخرجي واستنشقي بعض الهواء النقي.

فهمتُ أنَّهُ يرغب بالتَّحدُّث مع ويفان على إنفراد، رُبَّما عليَّ حقًا منحه تلك الفرصة؛ لذا أومأت وغادرت.

خرجتُ لأقف على شُرفةِ المنزل وأنا أبكي، لا بأس لو رأوني أهل القرية وأنا أبكي، سيعرفون كم أنَّ ذلك العندليب شرير، يمكنه أن يجعل إمرأة تبكي.

...

توقَّفَ لوهان ينظر إلى سيدته تبكي على الشُّرفة، تنهَّد ثم اقترب من ويفان حتى جلس أرضًا قُربه.

- الطبيب آتى لمُعاينتك على كل حال، ليس من اللطيف أن تمنعه من فحصك، ولقد سافر كل هذه المسافة لأجلك؛ أوليس؟!

تنهَّد ويفان بأستياء وهو ينظر إلى الطبيب، الذي يقف مُذُّ وصوله؛ ينتظر أن يسمح له ويفان بفحصِه، أومئ ويفان مُكرهًا، وسلَّمَ ظهره للطبيب، الذي نبش فيه. وما إن إنتهى فحصه، وتضميد جرحه؛ أبلغه وهو ينام على بطنه، كذلك أبلغ لوهان.

-جُرحك يلتئم بشكل جيد جدًا؛ أظن أن بضعةِ أيّام أُخَر وستتمكَّن من ممارسة حياتك بشكلٍ طبيعي!

تساعد الطبيب ولوهان لمُساعدة ويفان ليجلس جيدًا، ثم ويفان نبس.

- شكرًا لكَ أُيُّها الطبيب.

- على الرُّحب سيدي!

أشار له لوهان أن يُغادِر، فانحنى ثم غادر. وهكذا بقيَ لوهان وويفان وحدهما في المنزل، ولوهان لم يتحدَّث بل جالت عينيه المنزل.

منزل بسيط جدًا معدوم من كل الرفاهيات، التي إعتادت عليها الآنسة، مساحته ليس بنصف مساحة غرفة إيف في شنغهاي، فراش أرضي غير مريح، وبار صغير مُهترئ، كذلك خزانة خشبيّة مركونة على الزاوية، طاولة صغيرة أرضيّة تتسع شخصين فحسب، وأفرشة مرتَّبة فوق بعضها بزاوية أخرى، وفقط.

كان ويفان يُلاحق عيني لوهان الفضوليّة، ثم نبس بإستنكار.

- لا أظن أنَّها المرة الأولى التي ترى فيها منزلي، أليس كذلك؟!

أومئ لوهان ثم نظر إلى ويفان مكتفيًا من رؤية منزلِه.

- ألم تُفكِّر يومًا بما الذي يجبر الآنسة إيف أن تبقى في مكان كهذا؟!

- لا أهتم!

جوابًا مُختصرًا ومُفصَّلًا جعل حاجب لوهان يرتفع، ثم يضحك بإستنكار.

- أما زِلتَ لا تهتم لو أخبرتُكَ أنَّها الشّابة الأكثر ثراءً في الصين؟!

نظر له ويفان دون أن يقول حرفًا، فلوهان اتبع بسؤال آخر.

-ألا تدري ما الذي جعلها تأتي إلى البرّيّة هنا؛ لتعيش حياة ليست بمقامِها، وتعيش مع ناس ليسوا من ثوبِها؟!

تنهَّد ويفان وقال؛ فلقد بدأ لوهان يزعجه بطريقة كلامه الفوقيّة.

- أعلم أنَّها عروس ثريّة هاربة من عريس ثري، قصَّتها مُستهلكة جدًا في السينما.

-في السينما؟!

إرتفع حاجب لوهان بإنكار، ثم ضحك.

- أتعرف ما هي السينما حتى؟!

إستطرد ويفان دون أن تتعكَّر أمواجه.

-إن كنتَ ستُثرثِر فقط فغادر، لستُ في مزاج لسماعِك!

عضَّ لوهان على شفتيه بسخط فيما يُشيح عن ويفان إلى يمينه ثم قال.

- إن عادت معي سيقتلها أو يعتدي عليها؛ هل ستحُب أن يحدث بها ذلك؟!

إرتفع حاجب ويفان بإنكار، الرجال المهوسون هم محضِ أسطورة من إبتداع المُراهقات، أو أنَّهم صِنف مُعتَل نفسيًا فلا ينفع أن يندمجوا بالمجتمع، أو حتى صِنف بشري قد انقرض.

رأى لوهان الإنكار في وجهِ ويفان فقال.

-لستُ أكذب عليكَ أبدًا؛ أنا أقول لكَ الحق؛ إيف إن عادت قد يقتلها أو تقتل نفسها؛ لذا اتركها تبقى معك حتى يأتي الوقت المُناسب لتعود.

- ومتى سيأتي هذا الوقت المناسب؟!

- لا أدري متى؛ لكنَّهُ قريب.

ثم زفر مُتبِعًا.

- إيف تصرَّفت بعفويّة وجنون حينما تعرَّضت لتلك الإصابة، لقد أحضرتني من المدينة رغم الخطر، الذي بات يُحدِّق بها، هاجمت الذي حاول قتلك بذات السهم، الذي حاول قتلك فيه، لم أراها بهذه الوحشية أبدًا، ثم توعَّدت أن تُحرِّر الناس، وتشتري الأراضي، وتجعلك كبيرهم، فقط لأنَّها كانت غاضبة وخائفة من خسارتك.

هي لم تفعل أيًّا من ذلك لأجلِ الناس، هي فعلت لأجلك ولتحميك، ليس ردًّا للمعروف، فهي عادةً ما ترد المعروف بلغة الأغنياء؛ بالمال؛ لكنَّها قدَّمت تضحيات لأجلك... أظُنها تَكِن لك أكثر من مُجرَّد إمتنان!

نظر ويفان إلى لوهان، وهو لا يصدق ما يسمعه، هل حقًا قد تكون إيف تَكِنُّ له مشاعر، كالَّتي تَكِنُها المرأة للرَّجُل؛ المرأة المُغرَمة!

استغرب ذلك بشدة، هو غير قابل للحب، وإيف تدرك ذلك جيدًا، لا يسع عالمه أحد سواه، عالمه ضيق ومظلم وأسود كماضيه، وحاضره، وشخصيته؛ ولا يمكن أن تَتَّسِع هذه الجحيم شخصين.

- هي تعلم أنَّني معطوب، لا يُمكنها أن تقع في حُبّي!

برم لوهان شفتيه وأومئ؛ فمن الواضح من البيئة التي يعيش بها أنَّهُ معطوب.

-حسنًا؛ لكن القلب لا يفهم!

وهذهِ هي الحقيقة؛ حتى لو ما كان ويفان يستحق أن يُحَب فقلب إيف لا يُدرِك ذلك ولن يفهمه؛ لأن للقلبِ صوت آبيّ وعنيد، ينتصر ولا يُهزَم أبدًا... وويفان يُدرِك ذلك جيّدًا؛ إذ نظر إليها عبر شَق الباب.

- لا أريد أن تُحقِّق أي من وعودها للناس، ذلك قد يُعرِّضُها للخطر، وأنا لستُ مُهتمًّا بقيادةِ أحد، وإن تعنَّتت سأتعنَّت وأجعلها تذهب معك!

تبسَّم لوهان ساخرًا، ثم أومئ قائلًا.

-أتمنّى لكَ السلامة أيُّها السيّد.

- شكرًا لك.

نهض لوهان، وخرج ليقف عند إيف، وحينما شعرت به بدأت تمسح دموعها؛ فأمسك بذراعها وجعلها تلتفت إليه، ثم مسح دموعها بإبهاميه قائلًا.

-لا تبكي؛ كل شيء سيكون على ما يُرام.

أومأت وهو ابتعد يقول.

- لقد شرحتُ له وضعك، ورضيَّ أن تبقي هنا.

سُرعان ما غضبت إيف.

-ماذا؟! لماذا أخبرته؟!

- وكيف كنتُ سأبقيكِ هُنا؟!
هو كان مُتزمِّت بطردِك، وما كنتُ لأجد طريقة أفضل من أن أشرح له وضعك!

تنهَّدت إيف بأستياء ودعكت صدغيها بعصبيّة.

- والآن سيُبقيني لأنَّهُ يُشفِق علي.

-هو ما أبقاكِ مُذُّ البداية إلا لأنَّهُ يُشفِق عليكِ.

توقَّفت إيف لوهلة وفكَّرت بكلامِ لوهان، لم يخطر على بالها قط أنَّ إلتزامه بها محض شفقة، ولكن ماذا سيكون لو كان غير ذلك؟!

نظرت إليه في الداخل، وزفرت ببؤس... بالتأكيد لا شيء سوى الشفقة.

- لكنَّني الآن أُجبره على إلزامه بي... أكره ذلك!

...

غادر لوهان قبل المَغيب من القريّة، والناس فعلًا أدركوا أنَّ زوجة ويفان ليست قرويّة، بل هي من المدينة؛ لذا كان أملهم كبير بها؛ لم يدروا أن أحد ما قد يأتي ويُحرِّرهم من عبوديةِ زعيم القُرى وابنه... لكن قد لا تسير الأمور كما يشتهون.

ليلًا؛ دخلت إيف إلى المنزل أخيرًا؛ لقد قضت كل ذلك الوقت في منزل الجدَّة هربًا من ويفان وسخطه المُحتمَل؛ لكنها في النهاية؛ مُضطَّرة أن تواجهه.

دخلت على رؤوسِ أصابعها المنزل، رغم أنَّها تعلم أنَّ نومه خفيف جدًا، وقد يستيقط على نقراتِ أصابعها للأرض.

تحقَّقت من أنَّهُ نائم حينما اقتربت منه لترى وجهه؛ لكنَّها شهقت بخوف حينما همس وهو يُغلق عينيه.

- لا تتأخَّري في الخارج لهذا الوقت مُجدَّدًا، واطفئي الضوء ونامي!

- حسنًا!

إزدرئت جوفها في قلق، وتحرَّكت لتنفيذ ما قاله، هي أتت لنومِ في كُلِّ الأحوال هي ليست مُطيعة لو كان يظن ذلك.

وضعت فراشها أرضًا، ولكنَّها قرَّبته منه، ثم حرصت أن تحضر إبريق مياه وتضعه قريبًا منه، فنعم هو يشعر بالعطش ليلًا.

كانت تعتني به جدًا؛ ولكنَّهُ جاحد.

في الصباح الباكر؛ أستيقظ ويفان قبلها كالعادة، واحتاج بعض الوقت لينهض عن مكانه بصعوبة، حاول أن يُعين نفسه بنفسه هذه المرة رغم صعوبة ذلك؛ فهو يشعر بالإحراج بسببِ عجزه وحاجته لعونِها.

بدَّلَ ثيابه وغسل شعره، غسل أسنانه وثيابه، ومسح جسده بمنشفة، رغم أن ذلك بدى مُقرفًا؛ لكنَّهُ لا يستطيع أن يستحم طالما جُرح ظهره ندي.

خرج وألقى نظرة عليها، ما زالت مُستغرقة في النوم؛ حسنًا... كفتاة ثريّة مُدلَّلة قد تنام للظُهر حتى ولا تكتفي.

خرج من المنزل، وقرَّرَ أن يضع حدًّا للوعود، التي قطعتها للناس وما هي بقادرة على تحقيقها؛ إذ فورما أشرقت شمسه إلتفَّ حوله الناس بلهفة؛ فأيُّ شخص يعيش في هذه البريّة هو فرد من عائلة واحدة، لو تداعى تداعت كل العائلة.

كانوا سعيدين بإستعادته صحته، ووقوفه هكذا أمامهم بهيبتِه المُعتادة؛ تجمع الناس من حوله وكانت اللحظة الأفضل ليقول لهم ما بجوفه.

- أردتُ أن أخبركم بشيء، ودعوني أعتذر عنه أولًا.

إنحنى لهم برأسه، فأصبح يسمع بينهم وشوشات، وحينما رفع رأسه أبصر وجوههم القَلِقة.

- في الحقيقة؛ الوعود التي قطعتها زوجتي لكم لن تستطيع أن توفي بها لكم.

تعبَّأت وجوه الناس بالخيبات حينما صرَّحَ بذلك، فاعتذر مُخفِضًا رأسه مُجدَّدًا لهم وقال.

- أعلم أنَّكم وضعتم على أكتافها توقعات كبيرة خصوصًا بعدما رأيتم المروحيّة، والرِّجال المدنيون، الذين يلبسون بطريقة مختلفة.

صحيح أنَّها من المدينة، وثريّة أكثر بكثير من الزعيم وابنه، ولكن سُلطتها ضعيفة؛ لو أمَّدتكُم بالمال قد يأتوا رجالًا أكثر همجيّة من الزعيم وعصابته، ويأخذوها عنوة.

لستُ أمانع أن تُحقِّق وعودها ولكن ليس على حسابِ حياتها وأمانها؛ لذا إن إستعادت في يوم سُلطتها قد تتذكَّر الوعد، الذي منحتكم أيّاه وتساعدكم.

تعالت زمجرات الناس الغاضبة، فلقد وضعوا على أكتاف زوجة ويفان آمالًا كثيرة وهي من سمحت لهم بذلك حينما منحتهم تلك الوعود، التي باتت فارغة، لا تعني شيئًا، قيلت في لحظةِ غضب.

- والآن ماذا سنفعل؟!
الزعيم لن يرضى أن نعمل عنده مُجدَّدًا بعدما تمرَّدنا عليه!

-ألا يمكنكم الصمود مثلي؟!

اقترب ويفان حتى وقف بينهم فيما يضع يداه في جيوب بنطاله البُنّي.

- أنا لم أحتاج يومًا أن أعمل لدى الزعيم، وتعلمون أنَّهُ لهذا السبب يكرهني، لقد رفضتُ أن أكون عبدًا عنده، ولكنكم قبلتم، والآن تريدون العودة إليه حينما تقطَّعت آمالكم.

زوجتي ليست مُخطئة، لقد حررتكم من قيود العبودية، والآن عليكم أن تجدوا طريقكم بأنفسكم.

- ولكن كيف؟!

هتف أحدهم بيأس، فالتفت إليه ويفان وربَّتَ على كتفه قائلًا.

- أنا سأساعدكم؛ أحتاج ثقتكم فقط!

وبرأسِ ويفان فكرة لينقذ بها الناس في هذه القرية والقُرى المجاورة، ويضعف قوَّة الزعيم ونسله.

هو ليس من النوع الذي ينتقم، ولا يرغب في أن يصبح زعيم القُرى، أو أن يتمتَّع بالثراء والسُّلطة، كل ما يريده ويفان أن يبني صرحًا مُشيَّدًا للناس؛ كي يحتموا فيه، ويستمر في أن يعيش حياته البسيطة والهادئة.

...

أستيقظت إيف على رائحةِ الطعام، والضَّجَّة، التي رُبَّما يفتعلها ويفان عن عمد، حينما فتحت عيناها ورأته يقف إلى بارِ المطبخ الصغير نبست بإستياء بصوتها الواسِن.

-ويفان؛ ماذا تفعل عندك؟!
ما زِلتَ مريض تحتاج إلى الرعاية!

نهضت حتى أصبحت بظهرِه فقال.

-لا؛ أنا بخير... يمكنني أن أنهض وأقوم بأعمال.

وضعت يدها على ظهرِه؛ فنكز مُتألِّمًا، وافرج عن آهة. تنهَّدت إيف، وجذبته من يده بعيدًا عن بار المطبخ.

-بالأمسِ فقط كنتَ بحاجةِ من يُساعدك على النهوض، واليوم تقف لتحضير الفطور؛ كُن مُقنعًا أكثر على الأقل!

تنهَّد بأستياء، وانجرَّ خلف يدها، التي تسحبه، حتى أصبح يجلس على فِراشِه، وإيف وقفت عند البار، وبدأت بتحضير الفطور حتى انتهت، ووضعته أمامه.

وحينما ظنَّ أنَّها ستنظم إليه في الوجبة تعذَّرت.

-سأغتسل.

وويفان راقبها حتى ولجت دورة المياه، وهو في الحقيقة لا ينوي أن ينتظرها حتى تنتهي، ما زال حاقدًا عليها؛ لأنَّها أنقذته.

حينما خرجت من الحمام، وهي ترتدي ثيابًا أُخرى نظيفة، وتضع على رأسِها منشفة؛ وجدت المكان نظيف، ولم تجده، وحينما نادته لم يرد عليها صوته.

تنهدت بأستياء، إنَّهُ رَجُل عنيد وصعب المراس حقًا، جفَّفت شعرها، ثم خرجت لترى أين ذهب. قابلت في الخارج الجدَّة فاستوقفتها بهِتافٍ مُشرِق وابتسامة لطيفة.

- صباحُ الخير جدَّتي!

توقَّفت الجدَّة عن السير في الطُرق التُرابيّة، وابتسمت إلى إيف.

-صباحُ الخير عزيزتي!

إقتربت إيف منها فيما تتسآل.

-هل رأيتِ ويفان؟

أومأت الجدَّة، وتنهدت بأستياء.

- إنَّهُ شابٌ عنيد للغاية، لم يقبل إلا أن يذهب للغابة ليصطاد، ولكن لا تقلقي، لقد طلبتُ أن يُرافقه خمسة رجال، منهم يوك هيي؛ طلبتُ منه أن يلزمه أينما ذهب.

- يوك ههي؟! من يوك هيي؟!

قبضت إيف حاجبيها؛ تحاول أن تتذكر صاحب الأسم الأخير، الذي بدى مألوفًا للغاية، ثم حينما تذكرت هتفت.

-اوه؛ تقصدين لوكاس!

عوجَّ فم الجدَّة بإستياء وهمست.

-أنتِ وتلك الأسماء الغريبة!

لكن إيف لم تسمعها؛ فلقد جرت نحو الأشجار الكثيفة، والجدَّة نادت.

-إلى أين تذهبين؟!

صاحت إيف؛ كي يتسنّى للجدة أن تسمعها.

-سأتبعه؛ هو بالتأكيد لم يبتعد كثيرًا.

اضطرب قلبُ الجدَّة بقلق، واستنكرت توبِّخ.

- أيَّتُها المجنونة؛ هل تذهبي إلى الغابة عزلاء من أي سلاح؟ ماذا لو هاجمكِ حيوان برّي؟!

سُرعان ما عادت إيف إدراجها نحو الجدَّة، وقد تلبَّسها الخوف من الإحتمالات المُمكن حدوثها لو دخلت الغابة هكذا، مؤخَّرا بات ويفان يشغل كل تفكيرها لدرجةِ أنَّها تفشل في التفكير بطريقة سليمة، الآن كادت أن تتبعه رُغمَ المخاطر الموغِلة بالبرّيّة. تمسَّكت إيف بجيدِ الجدَّة وقالت تتذمَّر؛ فالخوف لم يمنعها من رغبتها باللحاقِ به.

-ولكنَّني حقًا أحتاج أن أذهب يا جدَّتي، تتذكَّري تلك الخُطَّة التي اتفقنا عليها؟!
وجب عليَّ البِدء بها!

همهمت الجدَّة فيما تُفكِّر بِعُمق.

- تقصدي أن تكوني كفتايات المدينة الوقحات، التي يحبهن ويفان؛ أليس كذلك؟!

أومأت لها إيف، فابتسمت الجدَّة إبتسامة واسعة وقالت.

-إذًا لا بُدَّ لي من مُساعدتك!

سُرعان ما قهقهت إيف، وانتظرت من الجدَّة أن تنجب لها حل؛ ولكن لم تتوقع إيف أن تسير خلف إحدى رجال القرية، والذي لسببٍ ما ساخط عليها، وهي لا تدري لماذا.

كان يتقدَّمها ببعضِ خطوات، وشعرت كما لو أنَّهُ تنبعث منه طاقة إستحقار تجعل حجمها خلفه يصغر ويصغر.

- ها قد وصلنا!

قال الرَّجُل ذلك بنبرةٍ جافيّة قبل أن يُغادِر، فانحنت برأسها قليلًا تشكره.

- شكرًا لك!

أومئ لها، ثم أشار إلى لوكاس، الذي يدركها وهو يلوح بيده.

- ها هو يوك هيي، يُمكنه أن يتولَّاكِ الآن.

غادر الرَّجُل حينما أدركها لوكاس، حينها تحدَّثت إيف إليه بإستغراب.

-لِمَ يُعاملني هذا الرَّجُل هكذا؟!
أشعر وكأنَّني تسبَّبتُ بقتلِ أحد عزيز عليه!

تبسَّم لوكاس بتوتُّر.

- ألا تدري ماذا حصل صباح اليوم؟!

برَّمت ثغرها بجهل، فتنهَّد لوكاس، وتولّى مُهمة إخبارها، فويفان لن يتحدَّث بالأمر ولا أحد غيره؛ لذا سيفعل هو.

- في الحقيقة؛ اليوم صباحًا خرج أخي ويفان، وتحدَّثَ إلى الناس، أخبرهم أنَّكِ لن تتمكَّني من تحقيق وعودك وإن كنتِ ثريّة؛ لأن ذلك يُعرِّضكِ للخطر.

سُرعان ما وضعت إيف وجهها بين يديها، وصرخت بغضب.

- يا للإحراج يا للإحراج!

أنزلت يديها عن وجهها، الذي بات يشتعل غضبًا، وقالت للوكاس.

- أين هو أخوكَ العزيز؟!

أشار لوكاس نحو الشلّال وقال.

- إنَّهُ قُربَ الشلَّال.

تمسَّك بعضدها حينما تحرَّكت قُدمًا، وأخذ يتوسَّلها.

- أرجوكِ لا تخبريه أنَّني من أخبرك، سيوبخني بشِدَّة!

ثم وقف لوكاس بإعتدال واستمرَّ في سردِ الكلام بخوف.

- ثم هو زوجك، ومن حقِّه أن يتأكَّد من سلامتِك؛ لذا لا تقولي له شيئًا أرجوكِ!

طبطبت على كتفِه قبل أن تنسحب تُمتِم.

- لأرى زوجي ماذا يفعل!

لوكاس وقف مكانه وبدنه يرتجف، ثم صفع نفسه مرَّتين؛ لأنَّهُ أخبرها، ما كان عليه التورُّط.

وأما إيف؛ فأدركت الشلَّال حتى ترآى لها ويفان يجلس قُرب حدوده وهو يُغنّي أغنيته، التي هي بلُغة لا تفهمها.

-سمعتُ أن الرَّجُل العندليب دائمًا ما يُمارِس اليوغا قُرب الشلال.

جلست بجانبه عندما لم يعطيها أي شَطر من تركيزه.

أخذت تنظر إلى ملامح وجهه الجانبيّة، التي تحفر نفسها بروعة في نظرِها، وذاكِرتها، وقلبها.

تنهدت مُتخَمة بالحُب، جعلت تُريح وجنتها براحة يدها، وتتأمله بهُيام.

-أكاد أموت لفرط وسامتك، صوتكَ جميل أيضًا... أنا مُت بالفعل!

الآن كانت غاضبة منه، لقد تبخَّرَ كُل الغضب، لا تُصدِّق أنَّها ذاتها، التي كانت غاضبة مُذُّ ثوانٍ فقط، زفرت أنفاسها بِعُمق ونبست.

-لستُ أفهم كيف لك كل هذا التأثير علي؛ نظرتُ إليك فاختفى غضبي.

وهو الرَّجُل البارد لم ينظر إليها قط، بل فقط نبس بنبرة مُنخفضة، بالكاد تسمعه؛ فصوتُ إرتطام الماء من أعلى الشلال إلى الأسفل صاخب جدًا.

-ما الذي آتى بكِ إلى هنا؟!

تبسَّمت ونبست.

-ذاته.الذي آتى بك.

تمتمت؛ وهي تُربِّع ساقيها، وتجمع كفِّيها أمام صدرها، ثم أغمضت عيناها.

-تأمُّل الطبيعة.

نظر لها يرفع حاجبًا مشدوهًا بالتغيير، الذي حصل الآن على غِرار الصباح.

- وكيف تتأمَّلينها وعيناكِ مُغلقة؟

رمشت إيف بتوتُّر، ثم نظرت إلى ويفان تقول.

- أليست هكذا اليوغا؟!

حينها ما استطاع إلا أن يضحك؛ لأنَّها بدت في عينيه مثل مُهرِّج حقيقي أخرق، وهي تذمَّرت فيما تنظر إليه.

-لِمَ تضحك؟!

نفى برأسِه ونبس.

- لا شيء؛ فقط افعلي ما تُريدنه، ولا تُزعجيني، ولكن لا تقتحمي خصوصيتي مرَّةً أُخرى؛ سأطردك حينها.

تمدَّدت على يمينها فوق العُشب، واسندت رأسها بيدها، واستمرَّت بلا إنقطاع بالنظرِ إليه، وهو لِتوِّه قال أنَّهُ يُمكنها أن تفعل ما تشاء؛ ولكن ذلك لا يتضمَّن إحراجه بنظراتها المُتسمِّرة والمستمِرَّة عليه.

-لِمَ تنظري لي هكذا؟!

نظرت له فوق أُفق وتمتمت مُنغمسة.

- ما مُشكلتك؟ لِتو قلتَ أن أفعل ما أشاء!

نبهها يرفع سبّابته.

-ما دام لا يتضمَّن إزعاجي.

رفعت حاجبها بإستنكار، ونبست.

-وبِماذا أنا أُزعجك؟!

تذمَّر بسخط وهو ينظر إليها.

-تُزعجني نظراتك هذه؛ لذا كُفّي عن النظر إليَّ هكذا!

رفرفت بأهدابها، ثم أمالت رأسها بوداعة تقول.

- لا أُريد!

زفر أنفاسه بِعُمق، ونظر أمامه بسخط دون أن يُعلِّق، وهي استمرَّت بتأمل الطبيعة، التي ترغب بتأمُّلِها وتتراكم على شفتيها إبتسامة مُغرَمة.

حلَّ المساء، وقد حان الوقتُ للعودة إلى القريّة، وويفان نسي أمر إيف، التي تجلس بجواره، وهي لم تفعل شيئًا لإزعاجه إنما تأملها له؛ فإن كان هو مُعجبًا مُخلِصًا للشلَّال ولا يمل من مشاهدته، هي لا تَمِل من النظرِ إليه أبدًا أيضًا.

رُبَّما تُحِبه كما يُحب الشلال، فبغضِّ النظر عن النُدبة، التي تسبَّبَ به الشلال له، ورُغمَ أنَّهُ مكان يجمع كل الحُزن في صدره؛ ولكنَّهُ ما زال مواظبًا على زيارته؛ كما حُبه تمامًا؛ فرُغم بروده ومشاعره الجَلِفة والجافّة؛ ولكن التَّردُّد إليه ما زال مُمتعًا؛ ويمسح كل الجروح رُغمَ أنَّهُ يجرح.

نهضت معه أخيرًا حينما نهض، وحينما رأى حصانان تنهد بأستياء ونظر إليها؛ فحرَّكت كتفيها بجهل.

- لستُ من آتى بهن!

تنهَّد ويفان واقترب من الحصانان يمسك بلجام كل منهما.

- والآن علي أن أشاركك واحد، وأقود الآخر بيدي؟

تبسَّمت إيف، وضمَّت يديها بطريقة حالمة أسفل ذقنها، ثم قالت.

-حقًا أودُ ذلك؛ سيكون رومانسيًا للغاية!

ثم نظرت إليه، وانزلت يديها إلى جنبيها تنبس.

- ولكن لسوء حظي أنّي مُراعيّة، ويتوجَّب علي مُراعاة جُرحَك.

تنهَّد براحة ونبس.

- حمدًا للرَّب؛ وإذًا ماذا ستفعلي؟! 

توجَّهت إلى الفرس بينهما، وصعدتها ببراعة جعلته يندهش.

-اوه!

تبسَّمت بغرور وقالت.

-صحيح أنَّني فتاة المدينة المُدلَّلة، ولكنَّني أستطيع أن أتعايش مع البرّيّة أيضًا... أهوى ركوب الأحصنة.

صعد حصانه فيما يبتسم، ثم ضرب لجامه بِخفَّة ليتحرَّك حصانه رفقةِ فرسها، حينها قال.

-لا عجب؛ لقد ظننتُ أنَّكِ ستتعبي حتى تتكيَّفي مع المكان؛ ولكنَّكِ فعلتِ بِسُرعة!

وفيما يسيران تنهَّدت بهم؛ فرمقها بفضول.

-ماذا هناك؟

-أشعر بالحنين إلى راكوس.

-من هو هذا؟!

-حِصانيَ الأدهم!

استمرَّت في السير معه وقصَّت.

-لقد كنتُ اعتني به جيدًا، آتساءل كيف حاله الآن، هل ما زالوا يعتنوا به كما أمرتهم؟

-لا تقلقي؛ المرؤسين دومًا يتبعون أوامر الرئيس حتى يموت، ولكن لو كانوا أوفياء سيتبعونها حتى بعد موتِه.

ضحكت إيف بخفة ونبست.

-حسنًا؛ لم يكونوا أوفياء.

ثم نظرت إلى ويفان وهي تُقطِب حاجبيها.

-أحيانًا تُشعرني الطريقة التي تتحدَّث بها أنَّكَ لستَ قرويًّا؛ ينتابني الفضول لأعرف المزيد عنك.

-اكبحيه إذًا.

-ما هو؟!

أجابها فيما يسبقها بحصانه.

-فضولك.

ضربت حينها لِجام الفرس، وأسرعت تقول.

-انتظرني!

وصلا إلى القرية، ورأوا أن الناس يحضِّرون لشيء. ترجَّل ويفان عن الحصان برِفق، ثم فعلت إيف. لوكاس أخذ الأحصنة وويفان وإيف اقتربا من الجمع.

-ماذا تفعلون؟

ردَّ عليه لوكاس قبل أن يتحدَّث أي أحد.

-في الحقيقة؛ نحنُ نُحضِّر إلى مهرجان الألعاب، نحنُ نقوم به كل سنة؛ لنرى من سيكون القائد.

في العادة؛ يفوز أخي ويفان كل سنة، ولكن لأنَّهُ مُصاب يبدو أنَّ شخص آخر سيتولّى مكانه.

تخصَّرت إيف وقالت.

-لا؛ أنا سُأشارك بدلًا منه!










............................

يُتبَع...

" حُب الشلَّال"

العندليب والبرّيّة|| Orpheus

22nd/Oct/2021

.........................

© Mercy Ariana Park,
книга «العندليب والبرّيّة|| The Nightingale and the Wild».
Коментарі