مدينة الأفق
هل هذا حلم
مدينة الأفق





منذُ نحوِ الخمس سنوات ، زُرِعت شتلاتٌ لأشجارِ اللبانِ ، على طولِ الشارع المقابل لمنزلي ، و الأن أصبحت أشجاراً يانعة ، تكسوها الخضرة في أعلاها ، و تزينُ الشارعَ برائحتها الرطبة .

النسماتُ الصباحية القادمة من الشمال و المحملة بِبخار الماء المتصاعد من على فتحات التهوية لِناطحات السحاب ، تجعلُ الجنوب في فصل الشتاء رطباً مكثفاً بالضباب ، في فترة الصباح قبلَ إشراق الشمس .

×××

خرجتُ من المنزل ، و أغلقتُ الباب بهدوء ، قطعتُ الحديقة الأمامية بخطى متزنة ، و كعبٍ يدوس الأرض بثقةٍ، حتى
وصلتُ إلى البابِ الرئيسي ، كبستُ على لوحةِ رتاج الباب الإلكتروني ، لتطابق بصمات الأصابع الخاصة بي!.

هبت رائحةُ اللبان الرطبة، معَ أولى خطواتي لشارع المقابل لمنزلي ، ..و معَ بعد المسافة بين منزلي و محطة سيارات الأُجرة ، أقضيها في تأمل أشجار اللبان -أثناء المشي-و مراجعة تحضيرِ درسِ اليوم.

×××

سيارةُ الأجرة ، تتخذُ خطوةً عملاقة في عالم السيارات ، بعد أن زودت بعقلٍ إلكتروني ، متصلٍ بوحدة الذاكرة المركزية للمدينة ؛ و التي تضم كل المواقع و الطرقات ، و المباني الحكومية ، إلى المنشآت الصغيرة في الشمال و الجنوب ، ..و تزودها بِالعقول الإلكترونية في جميع سيارات الأجرة.

..اليوم يوم عمل!، فمن حسن حظي -و دعائي-أن سيارةً أجرةٍ واحدة قد بقت في انتظاري!.

أغلقت أبوابها الخلفية ، بالرتاج الإلكتروني ، القوي للغاية -و الذي يثير الرهبة لي-و انطلقت إلى الخط السريع .

الثانوية "العظمى"، لا تبعد الكثير من الوقتِ ، حوالي النصف ساعة ، فهي تتوسطُ الجنوب الشرقي من المدينة ، ثاني أكبر ثانوية في مدينة الأفق ، بعد ثانوية "النيل"، ..
أعملُ معلمةً للكيمياء ، منذ نحو الثلاثِ سنوات ، حصلتُ هذه السنة على ترشيحٍ لأفضل معلمة ، و هذا ما يدب في نفسي السعادة ، و القيام بمجهودٍ إضافي .

شقت سيارة الأجرة المكتنزة، الطريق إلى الخط السريع ، عمودياً ، يسعني من خلال نافذتها رأيت المنازل على جوانب الطريق ، .. يختلجني شعورٌ دافئٌ و سعيد ، عندما أمر على المنازل ، ذات الأسقف السماوية ، التي تحتضن في أعلاها لون السماء ، و تستمد الطاقة المولدة من أشعةِ الشمس ، فلا توجد أعمدة -سواءً أكانت خشبية أو حديدية - لخطوطٍ الأسلاك الكهربائية ، كما رُوِيَ لنا في المدارس الإبتدائية ، فهذه أصبحت من الزمن الغابر.

يحتلُ الجنوب ، الناس الريفيين ، يجتمعون في الجنوب فقط ، و تم تقسيمه إلى ثلاثة أقطارٍ رئيسية ، يتوجه لها كل السكان ، و هي مهمة ..

الأولُ منها "المركز"، و هو الجنوب ، المركز الرئيسي و الأكثر أحتواءً لأعداد السكان الريفيين.

أما الآخر فهو "المنطقة المتطورة " من الجنوب الشرقي ، الذي خصصَ لإنشاء المدارس الحكومية -الأبتدائية ، الإعدادية و الثانوية-، المستشفيات ، و عددٌ قليل من كليات العلوم الزراعية ، و بعض المنشأت الصغيرة ، و قيد الإنشاء ، و يتجه إليه جميع السكان ، للتزود من الأسواق المحلية بما يلزمهم ، و أيضاً تمدُ الغذاء ، لشمال المدينة .

و القطاع الأخير "المزارع الحديثة"، و تقع في الجنوب الغربي ، و هو امتدادٌ شاسع لأراضٍ زراعية ، تزرع على حسب الفصول ،و توفر لها بيئة ممتازة للنمو ..، و ثاني مكان لزدحام السكان بعد "المركز" في الجنوب ، أقطنُ فيه أنا و والدتي ، خلفنا مباشرةً أرضٌ زراعية حديثة شاسعة الأمتداد ، زرعت بالخضار التي تنمو في فصل الشتاء ، من نبات البوبر ، و اللفت ، البنجر ، الزهرة و الملفوف الأكثرُ طلباً في الأسواق على مستوى المدينة .

تجمع مياه الأمطار بعد الهطول الشِبه يومي ، و التي تخزن في خزانات ، عملاقة ، و يتم تنقية المياه أيضاً ،في مختبرات تقع في شمال المدينة -على حد علمي!-.

ظهرت سارية العلم ، الخاصة بثانوية " العظمى"، من على بعد عدت كيلومترات قصيرة، توقفت سيارة الأجرة ، في المواقف المخَصَصْة لها ، ثم أصدرت صوتً إلكتروني يفيدُ بدفعِ المال ، أخرجتُ البطاقة الإتمانية لإيداع المبلغ ، مررتها على آلة الإيداع ، ثم أدخلتُ الرمز السري للبطاقة .
ترجلتُ من سيارة الأجرة ، لتنطلق عائدة عابرةً الخط السريع ، إلى الطريقٍ الفرعي ، لسياراة الأجرة العائدة.

دخلتُ إلى الثانوية "العظمى"، عبر بوابة دخول المعلمات، ثم قصدتُ قسم الكيمياء -للفتيات-.

الثانوية "العظمى "، مقسمة إلى قسمين ، القسم الأمامي ، يدخلُ منه المعلمات و الطالبات، أما القسم الخلفي فيدخل منه المعلمين و الطلاب .

عبرتُ الممرَ الزجاجي ، المطل على الملعب ، الذي تحتلهُ الفتيات ، في وقتٍ مبكر من الصباح ، مرت من الخارج معلمة ألعاب القوى الأنسة بتول، تجري بحماس و وراءها صفٌ من الطالبات ، أسرعن في الجري ، حتى أختفين عن مرمى نظري .

"أنسة أروى .. أنسة أروى ".
نادتني السيدة كاملة ، الوكيلةُ ، على غير العادة ، اقتربت تهرول ، و تلهثُ بشدة .

قالت و هي تعيد ترتيب الأوراق بين يديها
:"هناكَ إجراءٌ بسيط سنقومُ به ، بين الصفوف".
هززتُ رأسي بإذعان ،

لتكملَ:"تعرفين أن صحة السيدة الريم في تدهورٍ بطيئ؟".
أجبتها بهدوء :"أجل سيدة كاملة ، هل هناك شيءٌ أستطيعُ تقديمهُ لها؟".

نظرت لي نظرةً جادة ،ثم استرسلت في الحديث إلى صلب الموضوع :"سنقوم بالتبديل بينك و بينها!، معَ أنها معارضة لهذا الشيء ، و لكن لضمان صحتها ، .. أعدادُ الطالبات في صفكِ قليل ، فهذا سيساعدها قليلاً -على ما أظن -.
اتسعت عيناي بقلق ، و قلت :"هل رفضتْ أخذ إجازةٍ مرضية؟!".
هزت رأسها بقلة حيلة ، فقلتُ
-"أنا موافقة!".
-"سعيدةٌ بذلكَ".
قالت السيدة كاملة بهدوء ، ثم أضافت بعملية :"أوراق الصف العاشر ثالث ستكون على مكتبكِ ، أنسة أروى!".
و عادت أدراجها إلى عملها.

×××

أتخذتُ مقعدي ، على مكتبي في قسم الكيمياء ، أوراق الصف العاشر ثالث ، على مكتبي ، السيدة الريم -المعلم الأول- صارمةٌ فيما يخص التدريس ، و سريعةٌ في قطعِ الدروس في مهلةٍ قصيرة .

راجعتُ قائمة الاسماء ، خمسة و عشرون طالبة لدي في نفس الصف ، ..بالإضافة ، إلى المشروع المشترك الذي سيبدأُ اليوم ، لتكوين "بطارية كهروكيميائية "، مع ثانوية الطلاب .

لمحتُ السيدة الريم ، تدخلُ إلى القسم ، بوجهٍ مكفهر ، لا بدَّ أن السيدة كاملة أعلمتها بموافقتي ،
وضعت حقيبتها ، على مكتبها ثم أتجهت إليَّ، حيتني بمتعاضٍ ، و صوت واهن .

قالت بوجهٍ ممتعض:" أنسة أروى ، لما وافقتي ؟!، يسعني تدريسُ طالباتي ، و أنا بصحةٍ جيدة ".

فأجبتها بهدوء :"سيدة الريم ، إن صحتكِ في تدهورٍ بطيئ ، و هذا خطرٌ لكِ ، فأنتِ تبذلين جهداً إضافياً ، وهذا يؤثرُ سلباً على صحتكِ!".

تنهدت بفتور ، و قالت و هي تمشي عائدةً إلى مكتبها :"لما تقحمون صحتي في كلِ شيء!".

×××

كنتُ مستاءةً بعض الشيء ، فالسيدة الريم ، ترمقني طيلة ساعة ما قبلَ العمل بنظراتٍ غاضبة ، تهددني بها ، قائلةً منهما ، أنها بالفعلِ غاضبة ..، غاضبةٌ للغاية !،
شعرتُ بإنكسار يكادُ يفيض و يتحولُ إلى دموع ، فما إن أنقلبَ ضوءُ باب قسم الكيمياء إلى الأحمر ، حتى سارعتُ بلملمتْ أغراضي ، و خرجتُ أخطو بسرعة  ، مبتعدةً عن نظرات السيدة الريم التي تجعلني مستاءة .

أخرجتُ قطعةَ قماش بيضاء من معطفي -الثقيل و الذي يدفئني بتدفق الحرارة من داخله - أمسحُ تحتَ عيناي ، لأتأكدَ أن لا دموعَ ، قد خرجتْ بغيرِ درايةٍ مني ، أعدتها سريعاً ، عندما أحسستُ بحركةٍ ورائي ، إلتفتُ معَ إبتسامةٍ صغيرة، لأجد زميلتي "ترف"، فإبتسمتْ بتلقائية.
صافحنا بعضنا البعض ، و تحدثنا في أحاديث عملية ،بحماسٍ شديد، حتى قاربنا الوصول إلى صفينا ،
في اللحظة التي كنتُ أرتبُ قائمة الاسماء الصف العاشر ثالث ، صرخت ترف باسمي ، لأنتفض بسرعة مبتعدةً عنها!.
إقتربت ترى الأوراق ، ثم قالت بصوتٍ مرتفع ، صم أُذناي:" ما هذا!، لماذا الصفُ العاشر ثالث؟!..، أليسَ الصف العاشر أول ، هو صفك؟".
رمقتها بصرامة ، ثم عدتُ أرتب الأوراق بين يدي قائلة
:"بلى!، و لكن أنا و السيدة الريم تبادلنا ، يا ترف!".
صمتُ قليلاً، لتستوعبَ الكلمات القصيرة و التي ألقيتها بسرعة،
تمتمت بخفوت:" حقاً!، كيفَ أقنعتها بهذا ، فهي صعبة المراس فيما يخص طالباتها !".
تنهدتُ ، ثم قلت و أنا أدف الحروف لتخرج :"لَمْ أُقنعها ، و لكن الوكيلة هي من فعلت ، لقد حرقتني بنظراتها لمدة ساعة ، من على مكتبها!".

ضحكت ترف ، تشيحُ بوجهها بعيداً ، لأسألَ مزمجرة:"و الأن ، ما المضحكُ في كلامي ؟!".

أجابت :"أنكِ أقنعتها في النهاية!".

×××

الأستغرابُ الشديد ، و النظرات المتوترة، هي ما أكتنفتني منذ دخولي الصف ، لم تجرأ أي طالبة على الكلام ، حتى أنهيتُ من ضبط اللوح الذكي المواجه لطاولات الطالبات ، و عدلتُ من معطفي الأبيض .

قالت طالبة بتردد:" أنسة ..، هل السيدة الريم بخير؟".

أجبتُ و أنا أحدج الصف من نهايتهِ بنظرة متفحصة :"من اليوم سأكون معلمة الكيمياء لَكُنْ!، السيدة الريم ستكون معلمة الصف العاشر أول !".

ظهرت الصدمة جلية على بعض الطالبات ، و أخريات أبتسمن بستخفاف ، ليس علي زجرهن الأن ، و الأستماعُ إلى تبريراتهن السخيفة ، و المَّضيعة للوقت ، أرسلتُ لهن نظرةً تحذيرية ، ليعتدلن في جلوسهن ، و ينظرنَ إلى الأمام .
أستطعتُ إخمادَ الأصوات الفضولية و القلقة و الأخرى المستخفة ، لأبدأ بالموضوع الذي يشغلُ العمل الأكثر .

تم أصطفاء عشر طالبات من أصل خمسة و عشرون طالبة ، للقيام بالمشروع المشترك ، معَ الطلاب العشر الآخرين .

×××

ألتقطُ شريحةً ذهبية ، تسمى "الوصل"؛ التي تفيد بفتح الباب الفاصل بين ثانوية الطلاب و الطالبات ،
من على طاولة العميدة ، بعد عدتْ ساعات من الإنتظار .

مشيتُ ، و خلفي الطالبات العشر ، نقطعُ الرواق -الزجاجي-الذي يمتدُ إلى ثانوية الطلاب ، و قد حدد المختبر الخامس لأجراء المشروع ، و سيتم العمل عليه لأسبوعٍ فقط .

مررتُ الشريحة ، في آلة السحب المثبتة على جانب الباب الزجاجي ، الفاصل عن الثانوية الأخرى ،
..لاحظتُ توتر البعض من الطالبات و نحنُ نمشي ،

فقلتُ :"لا تقلقن بنات ، ساعتان فقط ، و نعود إلى الثانوية ".
نبست إحدى الطالبات التي تدعى رباب ، بصوتٍ يختلجُ القلق المفرط :"ماذا لو لم ننجح في هذا المشروع أنسة ؟، ماذا لو فشلنا !".

إنفتح الباب الزجاجي ، إلى الجانبين ، لنعبر إلى الجهة الأخرى ، بينما قالت صديقتها بهدوء -نقيض نبرتها-:" رباب ، نحنُ من النخبة ، و لدينا الأنسة أروى ، فكيف نفشل؟!".
إلتفتُ ألقي نظرة إليهن ، إبتسمتُ براحة ، بينما دانية -صديقتها على حد علمي - تربتُ على كتفها بخفة ، و الأخرى تطالعُ الأمام بإبتسامةٍ قلقة بعضَ الشيء ، أعدتُ نظري إلى الأمام ، لترتفع الهمسات بين الطالبات عندما أجتزنا الرواق -الزجاجي-، و عبرنا إلى الممر الزجاجي ، القاطع الأرض الواسعة إلى نصفين ،
يميناً الملعب الذي يمارسون فيه ألعاب القوى ، و الشعبية ، شمالاً حديقةٌ متسعة تكفي جميع الطلاب ، أستطيعُ لمح المكتبة الصغيرة من زجاج نافذتها الواضح .

ضحكاتهن أرتفعت ،من ورائي ، و هن يراقبن الطلاب و هم يركضون ،و يقتربون من الممرِ الزجاجي ، ليرمقوهن بنظرة مندهشة ، و بعدها بهنيهة تعلوا البسمة أثغرهم ،ضحكتُ داخل نفسي ، و تمتمتُ بداخلي قائلة :" لا بدَ أنهم طلاب السنة الأخيرة !".

لمحتُ من على بعد ليس بالطويل ، للممر الزجاجي ، طيف شخصٍ متوسط الطول ، ..سارعت من خطواتي ، ليسرعن الطالبات خلفي ،
تبين الشخصُ بوضوح ، و على إحدى جوانبهِ ، أنتصبَ شخصٌ آخر .

ألقى السيد "سلام"-المعلم الأول للكيمياء-التحية بحبور ، علينا ، بينما أبتسم "السيد شادي" -معلم كيمياء آخر -بفتور ، ليتوجهَ بنظراتهِ لِلطالبات متفحصاً كل واحدة بعينٍ محتدة ، ثم أبتسم بسخرية ، ليعيد تركيزه إلى كلام السيد سلام ، زفرتُ بخفوت، و أنا أغتصبُ إبتسامةٍ للظهور أمامهما .

لم ألحظ الطلاب ، إلا عندما و لجنا إلى المختبر الخامس ، عشرُ طلاب ، قد وزعوا كل خمسةً على طاولتين متباعدتبن قليلاً.
تجهزت الطالبات ليتوزعن هن الأخريات على الطاولتين ، تم الشرحَ لهم عن كيفية طريقة عمل البطارية الكهروكيميائية ، و ما عليهم سوى أتباع الخطوات .

صعدتُ إلى منصةٍ مرتفعة بعض الشيء توفر رؤية محيطية للمختبر ، بشكلٍ ممتاز، ليصعدَ بعد دقائق ، السيد شادي ، إختلقَ حديثاً ، مبتدأً بسؤال
:"توقعتُ حضور السيدة الريم ، و ليس الأنسة أروى ".

أجبتُهُ بقتضاب :" حدثتْ ظروفٌ، تحتم عليها حضوري سيد شادي ".

-"آه ..، و لِمَ لَمْ تصلنا المستجدات بشأن هذا الأمر ؟".

-"لأنها حدثت صباحَ اليوم ، و اليوم هو اليوم الأول للمشروع لذلكَ كنا سنلتقي ، بأي حال !".

مرت ساعتان في هدوءٍ، تحتَ نظراتنا المراقبة للعملِ بتركيزٍ ، أصدرت مكبراتُ الصوت في سقف المختبر ، بكلماتٍ موجزة ، أن العمل قد أنتهى ، و بوسعهم تركهُ و الإنصراف .

خلعوا معاطف المختبر ، و علقوها في مكانها ، ليخرجوا الطلاب أولاً من الباب ثم الطالبات، بأوجهٍ مبتسمة ، و مرهقة من العمل المتواصل ، ..
نزلتُ من على المنصة أتفقد العمل عن قرب،
تمتم السيد شادي ،و هو يتفحص المشروع :" ليس سيءً للغاية، بالنسبة لطلاب السنةِ الأولى ".

أيدتهُ الرأي ، فالعملُ متقنٌ إلى حدٍ جيدٍ جداً، و لا بد الآن أن ينتظروا التقييمهم لعملهم .

أغلق السيد شادي مقابس الكهرباء في المختبر ، ثم خرجنا ، إلى ساحةٍ متوسطة الإمتداد ، تتوسطها شجرةً فارعةُ الطول ، عريضة الجذع ، تسقى عبر أسلاكٍ مائية متصلة بجذورها ، يلتفُ حولَ جذعها كرسيٌ مستدير ، جلس عليه الطلاب .

بدأ السيد شادي الكلام ، مثيراً اهتمامهم ، بينما طالعتهم بإبتسامة مشجعة :"بالنسبة لأولِ يوم...".
بتر جملتهُ ، و إرتفعت رؤوسنا عالياً نحو السماء مشدوهة .

دبَ في أواصلي ، رجفةٌ سريعة ، أهتز لها بدني ، عند سماع صافرات الإنذار تصدحُ بصوتٍ عالٍ مثيرةً الخوف و الهلع، آتيةً من الشمال ، ..جحظت أعينُ الطلابِ رعباً ، و إهتزت أيديهم و أرجلهم بنفضةٍ سريعة ، غير قادرين على التماسك ، تعلقَ نظري بالطالبة رباب ، ساقطةً على الأرض ، بثغرٍ مفتوح ، و أعينَ جاحظة، من الخوف ، صرختُ مرتدَةً إلى الكرسي ورائي ، قبل أن يسقط بعضُ الطلاب أمامي ، بنفس الوضعية، .. لمحتُ السيد شادي من بذلتهِ التي أنعكس عليها ، ضوء الشمس ، لتصقلها و تضفي عليها لمعاناً واضحاً، كان يديرُ ظهرهُ و يستندُ بيدهِ على طرف الكرسي المستدير ،و يمسكُ الأخرى بخصلاتِ شعره ، و يشدها بقوة .
مجالٌ غريب ، كأمواجٍ تتلاطمُ أسفلُ ساقي ، يمنعني من التحركَ بإنسيابية، شعرتُ بتشنجَ أطراف أقدامي ، ليمتدَ إلى أناملي ، ثم جسمي ، طاقةٌ غريبة أجتاحتْ رأسي ، و ألمتني بشدة، أمسكتُ شعيرات رأسي بقوة أفركها بيدي ، أصبحت الرؤيةُ ضبابيةٌ ، و غير واضحةٍ البتهْ، أشعرُ بحرارةٍ كبيرة ، و كأن فرناً يعملُ بالإلكترونات و ضعَ داخل رأسي .

آخرُ ما أذكرهُ رؤيتي لنقاطٍ سوداء تطفوا في السماء ، ثم أصطدم رأسي بالأرض ، لأفقدَ الوعي .

© Papillon -,
книга «البدائل».
Коментарі