قصة قصيرة
قصة قصيرة
اعْطِه! }

[ لا تُعْطِه! ]

{ يارجل!  ما بالك أضحيت جمادًا هكذا؟ فلتُفَتِتْ الصخر الذي تَلَبَّسَك و لا تُمِكِّنْه مني؛ احفظ ماء وجهي ولا تحيلني كذاك اليابس بلا شعور، ادفع بالتي هي أحسن.}

[قلت لك لا تفعل! اخلع غشاء الحنو الخانع هذا عن عينيك وابصر بعيني أنا قليلا؛ ابصر حقيقة ذلك الطالب ولا تكن جاهلا كما هو؛ فهو قد جهل الفكر وأخطأ الفعل لضلاله عن المقصد، فما حجتك أنت؛ يامن تختال بصواب فعلك وسمو غايتك؟ ]

{هاهو يتفلسف كعادته ويكركب نبضاتي لأركن ساكنا لا أملك                 دليلا بصيرا أقاتل به أمامه} قالها بتذمر طفولي فقير للنضوج.

[أحسنت بسماعك لما أقول، فليهدك الله لي دائما.]

{لا تختل بنفسك هكذا، مازلت حانقا عليك وعلي خضوعي
   لك؛ يؤنبنى ضميري بشدة و...}

"اهدئا قليلا أنتما الإثنان وترأفا بحالي " قلتها أنا.

كان هذا حوارا قصيرا بين القلب والعقل؛ حوارا دائما مايتكرر وقعه داخل أي أحد منا إذا ما مر ضيف قصتنا هذه أمامكم.

و من الضيف؟ لا بُدَّ وأنكم قد عرفتموه ولكن أريد تقديمه لكم بِحُلَّتِه هو التي عادة ما يظهر بها أمامكم.

نُصْبَ أعينكم عدد من الصناديق _جوفاء فاغرة فيها(فمها) لتطعمها كل مالذ وطاب دون تعب_  أول وثانٍ وثالث و هكذا استمِر في العد دون توقف؛ فتلك الصناديق اقتبست من البشر تكاثره فأضحت وَلَّادة و زادت عن البشر صفة البهيمية لتكثر في الفعل دون رادع و لا واعظ لذلك الاستنساخ الشَّرِه.

تلك الصناديق باسطة يدها إليك تكاد تعصرك عصرًا لتسيل نهرا من المال لا ينضب.

هذه هي الصناديق الشاحذة،  فاحذروا !

منذ الصغر و كلمة《شَحَّاذ》 مُدْرَجَة بقاموس كلماتنا الحياتية، ربما أول مانالته تلك الكلمة نصيبًا مِنَّا كان أعيننا، فلقد مارس صاحبها إغواءًا لا يرحم ضعفنا، وكيف لا يفعل وقد اجتذبت ملابسه الممزقة و شعره الموحل دموع أعيننا يسبقها تمزق روحنا؛ كأنه أبى أن نكون بلا تمزق دونه!

و لكن، هل كل شَحَّاذٍ يستحق ذاك الاهتراء المضني لمشاعرنا؟ أم يجب علينا الترفق بأنفسنا أولا كي نعطي كل ذي حقٍ حقه؟!

قبل أن أجيب.... (شئ لله) ..بكم!

(شئ لله، اعطني ممّا أعطاك الله)

" رزقك الله من فضله، إذا سمحت لي"

ها قد عدتُ إليكم، اعذروني ف....

( أنت أيها السيد المحترم؛ اعطف عَلَيَّ و ارفق بحالي و اعطني شيئا من مالك، أريد أن آكل، ألا ترى اهتراء حالي؟ لِمَ قلبك قاسٍ هكذا؟ )

" يارب، ماذا أفعل؟ ...أنسيت مالقنه إياك صاحبنا العقل؟ آه لقد تذكرت، حسنا؛ أيها الرجل، علي الانصراف، رزقك الله وأصلح من أمرك"
"حسنا فعلت، أنت علي صواب، هاقد عدتُ إليكم، ماذا كنت أقول؟... كنت أقول لكم؛ قبل أن أجيبكم على السؤالين السابقين سأوضح لكم......

( سيدي، هل تمهلني دقيقة؟ اصغ إليَّ قليلا)

" حسنا أيها الرجل، كُلِّي آذانٌ صاغية "

( جئت طامعا بكريم أصلك، وَ جُودِ صنيعك، ولولا حاجتي ماذللت نفسي إليك؛ أمي مريضة، إن لم تُجْر لها عملية ستلقى حتفها وتفارقنا، وأنا رجل فقير قليل الحيلة يطمع باغتنام الجنة تحت أقدام أمه، ولكن ما بحوزتي من قروش لا يسعف الذهن بمتعة الخيال حتى! وأنا أستبشر بوجهك خيرًا، فاعطني مما أعطاك الله)

"ماذا أفعل الآن؟ لِمَ سَكَتَّ الآن أيها العقل المختال بنفسه؛ برهن سداد تصرفك و أَسْدِ إلي النصح "

[لن أنكر شعوري، لقد أشفقت عليه حقا] قال العقل

{ هل عطبت أذناي، أم أن ما سمعته صحيحًا؟ هل تشعر وتشفق مثلنا أيها العقل الصخرة } قال القلب مُشَكِكًا.

[ و من قال أني لا أشعر؛ أنا فقط أعقل الأمور وأزنها بميزان حكيم كيلا أضل ولا أميل مع الهوى، وشعوري هذا بالشفقة لا يمنع توجسي من الأمر كذلك، فقد يكون هذا الرجل محتالًا كغيره ليظفر بالمال ] ردَّ العقل.

" أصبت أيها العقل؛ فلقد سمعت بأحد البرامج عن عمليات احتيال كهذه.
إذن ما العمل؟
إن كان يقول كذبًا نجونا وزهوت مختالًا بيننا؛ ولكن إن كان مايقول صدقًا فويل لنا من الله ومما سيسلطه -سبحانه- علينا من عذاب ضميرنا، ما العمل ! "

( أيها العم! )

" مِن أين يأتي ذلك الصوت الطفولي؟ مالذي يجذب طرف بنطالي هكذا؟! أهذا أنت أيها العفريت الشقي، ماذا تريد؟ مهلًا مهلًا، لِمَ حالك رثة هكذا؛ تكاد ملامحك أن تكون مُرَقَّعَة كأسمالك(ملابس بالية) تتباين ألوان أجزائهما ! "

( أيها العم، اعطني مالًا؛ أريد أن أشتريَ فطورًا )

"وأين أبوك أيها الصغير؟" قلت مشفقا.

قال الصغير بصوت أجش يوشك على البكاء وعينين تائهتين
(لاأعلم)

" وأين أمك"

( أمي هناك جالسة عند ناصية الشارع)

" رُحماك يا الله!  ما هذا؟ كيف لطفلٍ أن يكتنفه الشارع ويتخلي عن حضانته مدرسةٌ وكتابٌ و ألعابٌ هي أول معلم له صفة الصديق! حسنا يا صغيري،  تعال معي نذهب لأمك أحادثها قليلا"

( لا) قالها الصغير فَزِعًا.

" لِمَ فزعت هكذا، هل تخاف على أمك مني؟"  قلت متهكمًا ثم بعد لحظة ومض عقلي فتسائلت" أم أنك... ياللهول! هل تخاف منها، هل تمارس أمومتها عليك تعنيفا"

تخضبت ملامح الطفل بألوان عدة صارخة بالعذاب

[ هذا إن كانت أمه من الأصل؛ فتلك المعطيات تذهب بنا لتلك المنطقة من الشك] قال العقل.

" حسنا صغيري لا تخف، سأقترب منها دون أن أثير ريبتها " قلت قاطعا طريقي إليها.

"ما هذا، هل هذه أمك؟! "
أومأ الصغير موافقا

" كيف ذلك؟ كل ما فيها يخبرني ضد ذلك، هل نظرت لعينيها؛ بدلا من أن تقطر حنانا أمويًا خالصا يغمرك، أراها تطلق سهاما مفترسة أنيابها نيران حارقة لبراعم الطفولة داخلك، وإذا نظرت إلي يديها أراها يدي سَجَّانٍ دُربت لتضرب وتُكَبِل لا لتُربِت وتُقَبِل، و إذا بصرت أعماقها لتوجست خِيفةً من قحط الشعور الإنساني ولوَجِلَت جوارحك  مما تلمسته من خواء مخيف، فأي عقلٍ غِرٍ يصدق حديثا مُفْتَرَي كالذي يخرج من فمك وتثور ملامحك نفيا له وإنكارا "

(ماذا تريد أيها الأفندي، هل أزعجك ذلك الصبي ) قالت بنبرة مرتابة.

" بسم الله الرحمن الرحيم"    همست بها فزعا فلقد فاجئتنى دون أن أنتبه لها، فقد كنت هائما في أفكاري، أم أنها مهارة لديها يتطلبها عملها؟ لا أدري حقيقة، ماذا ترجحون أنتم؟

سرعان مالملمتُ شتات أمري وفكري مجيبا لها " كلا، أيتها السيدة الكريمة، لم يزعجني غير أنه كان يسألني مالا "

( وهل أعطيته ) قالت بصوت مستكين مستجدي لا يتجانس مع الإشارات الحمراء التي تكاد تقفز من عينيها.

" لقد تحدثت معه وكنت آتيا إليكِ لكي...."

( سيدي، لِمَ  تركتني و ذهبت؟ أرجوك اعطف عليَّ؛ اعطني أي شئ يساعدني لمعالجة أمي، أرجوك )

" حسنا و لكن، لقد كنت أتحدث إلي تلك الس......."

( أنت أيها السيد، كيف تتركني هكذا؟ لقد نهجتُ ركضًا وراءك، لن أتركك دون إعطائي المال، أنا جائع، ما بالك متحجر الإحساس هكذا )

" حسنا أنت الآخر لو تأذن لي لكي أ ق و .. "

(اعطني مالا)
(أرجوك)
( ارفق بي وبالطفل الذي معي أيها الأفندي)

واحتشد الأطراف الثلاثة ملتفين حولي و تجمهرت حروفهم خانقةً لأي حرف قد ينبثق من جوفي.

( أيها السيد )
( سيدي )
( أيها الأفندي )

" ماهذا؟!
عقلي! أين أنت؟ أغثني، يبدو أنك تجمدت من الصدمة، وأنت أيها القلب؛ اسكن، لما تقفز هكذا؟ ربما إحدى قفزاتك تلك من حث العقل علي الهروب جامدا.
ماذا أفعل؟ كيف أخرج من هذا الموقف؟ "

(أيها السيد ..... سيدي... ما هذا أيها الأفندي )

حروف حروف حروف لاتتوقف عن الهطول علي مسامعي

و.....

سكوووون ..

" ماهذا؟ لِمَ تجمدتم هكذا؟! "

[ لقد أصبحوا كالتماثيل ] قال العقل.

" الآن أيها العقل تثبت حضورك، أين كنت وقت حاجتي إليك، هااا "

[ عذرا صاحبي، عند الخوف تخور قُواي] قالها العقل خَجِلًا.

{ عند الخوف يعلو صوت القوي والذي كان أنا } قالها القلب مختالا بنفسه.

[ من هذا القوي؟ ألم تكن تثب وثبًا_ كفيلًا بأن يعبر قارات _ من الرعب] قال العقل

{ علي الأقل أثبت حضوري و ليس ك ناس }  قال القلب ساخرًا  مُغيظا.

" هل يمكن لسيادتكما الصمت قليلا و معرفة ما يحدث لنا في هذا اليوم المُبَارَك "

فجأة ....ظلام .

{ماهذا }
[لا أري شيئا ]

" لِمَ أظلمت هكذا "

ثُمَّ ..... ظهر شعاعٌ من نور .

" يبدو أنه جاءنا الفرج،  الحمد لله "  قُلْت.

{ و ماذا سنفعل } قال القلب.

[ و هل هذا سؤال؟ لِنَتْبَعَه عَلَّهُ يهدينا صراطا مستقيمًا ]  قال العقل.

تحرك شعاع النور و اقتفينا أثره قاصدين النجاة.
توقف الشعاع و لا ندري لِمَ، وتوقفنا نحن من بعده فإذا به انعطف مُسَلِّطًا ضوءه علي مشهد إنساني يشدو بالعطاء معني للحياة.

المشهد يا سادة كان؛

  عامل نظافة جَلِّيٌ ما يقوم به من كنسٍ و تنظيف للطريق وكأنه يميط عن طريق حياتنا أيَّ أذي قد يُعَرْقِل غاياتنا، وهناك علي قارعة الطريق تجلس فتاة بمحطة الأتوبيس  يبدو  أنَّ قلبها أبصر نُبْلَ صنيعه و شهدت حركاته وتمثلت بمخيلتها حركات فارس و مِكْنَسَته أُحِيلَت سيفا اسْتُلَّ من غمده  ليذيق الأعداء شر هزيمة مُخَلِّصًا إيَّانا من شرهم واقينا وباءهم، ثم وكأن ذاك النزال قد حَمِيَ وَطِيسَه بِمُخَيِّلَةِ الفتاة فهَبَّت قائمة نحو بطلِه _ عامل النظافة_  و عند اقترابها منه شرعت بمهمتها فإذا بيدها شطيرة محفوظة كانت منذ دقائق قليلة مُمَدَّدَة داخل حقيبتها و كأنها حُفِظت بتلك العناية و الدلال له وحده، ثم مدت يدها إليه بتلك الشطيرة فقد نال الإنهاك منه كل منالٍ ولا بد من لقمة تسد رمقه، و لكن ماهذا، أهذا الذي يبدر منه تَمَنُع وإباء، ولكن لِمَ؟

[ ألا تسمع؛ إنه يرفض بحُجَّة أنه فطورها]

" ولكن الفتاة لا تزال علي إصرارها متعذرة بأنها سبقته و تناولت فطورها "

{ و لِمَ يرفض وهو بأَمَّسِ الحاجة لطعام يَقْوَي به علي عمله المُنْهِكِ ذاك؟ }
[ ألم تفهم بعد؛ إنها عِفَّةُ النفس يا صاحبي، تلك التي لا تُبَاعُ ولا تُشْتَرَي ]

"أصبت أيها العقل، فَهُم من قال عنهم الله _ سبحانه وتعالي _ في كتابه الكريم:

   《 يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ》.. [البقرة : 273]. 

انظر، لقد أخذها بعد إصرار، انظر لبسمة الفتاة وهي تغادره، يالسعادتها؛ كأنها تسير بموكب زفافها "

{ انظر إليه كيف يأكل! لقد بلغ منه الجوع ليأكل بِنَهَمٍ خَجِلٍ هكذا}

[أطعمه الله وكفاه]

ماهذا؟ لقد أظلمت ثانية!
ها قد عاد شعاع النور من جديد
هيا لِنَمْشِ وراءه، تُري إلي أين هذه المرة؟

و سُلِطَ الضوء علي؛

مَبْنَي نُصِبَ جمعية لمساعدة الفقراء و المحتاجين

[ انظر، انظر للأجمل منه ]
" أين "

[هناك ، تلك الناحية]

" ما هذا؟ هيئة لتوفير فرص عمل لمن لم يجد عملا بعد "

{انظروا للثالث}

" إنه مصرف يقرض ذوي الهِمَّة و الأفكار المُشْرِقَة مالًا _ دون فوائد _  كي يغرسوا بذور أحلامهم و تثمر عملًا يَشْدُد به أزرهم.

و إذ بصوت جهور يصدح ب ■محكمة■  و إذا بهم داخل قاعة المحكمة.

" كيف دخلنا إلي هنا "

[ لقد كنا بالخارج نقرأ ماخَطَّه النور لنا، فكيف دخلنا إلي هنا؟ هل أخذتنا سِنَةٌ من النوم فأشفق علينا النور فحملنا ليأوينا بين جدران دار العدل تلك ]

□ أنتم أيها التائهون، ألستم قادمين تستهدون سبيلًا □

نظرت بعقلي وقلبي سكن لي وقلت " بلي " إذ وجدتني بموضع المِجْنِيّ عليه وأولئك من يحملون لقب شحَّاذ داخل قفص الإتهام، وأمامنا القاضي يحكم بيننا!

□ أتعلمون ما اتبعتم إلي هنا؟ □

" نعم، شعاع النور ذاك كان هاديًا لنا "

□ أصبت، قد كان، وليس ذلك فقط بل كان يحمل حُجَّةً
أيضًا □

" حُجَّة!  "

□ بلي، حُجَّة علي هؤلاء المُستسهِلين الذين يُنكرون القوة التي أنعم الله بها عليهم ويجحدون فضلها و يتواكلون لا يتكلون؛ يسترزقون الغادي و الرائح دون الأخذ بالأسباب، بل و يبخسون أنفسهم حقها. □

" وكيف يبخسون حق أنفسهم؟  "

□ ذلك بحبهم الأحمق لأنفسهم □

"حبٌ أحمق! "

□ نعم يا ولدي،  فلا يخلو أحدنا من حُبٍ يُكِنُّه لِنَفْسِه، ولكن * العِبرة بصنيع ذلك الحب؛  فهناك حب أحمق يجعل صاحبه يغدق نفسه دَلالًا مُرَفِّهًا لها عافيًا إيَّاها من تعب أو كلل فأضحت كناقة بركت خانعة كسولة أخذ  منها الكسل و الخنوع كل مأخذٍ لا تقدر علي القيام مرةً أخري فأصبحت لا تُسمِن ولا  تُغْنِي من جوع.....

وهناك حبٌ أعمق، ذاك الحب الذي يرفع من قَدْرِ الإنسان؛ * فذاك الحب يدفع صاحبه لتربية نفسه لترنوَ إلي كل غالٍ و نفيس مهما كان الطريق إليهما وَعِرًا بجهد ومَشَقَّة، فمن طلب العلا سهر الليالي □

أومأتُ موافقًا، فكيف لي أن أعترض علي كَلِمٍ كَذَاك !

□ أمَّا أنتم أيُّها المتهمون قد سوَّلت لكم أنفسكم أمرًا، فصبرٌ جميل والله المُستعان علي ماتصفون! ستلقون جزاء فعلتكم هذه أنتم ومن شاركَكُم ذلك الجُرْمَ وأعانكم عليه فآل بكم لتصديق ماتصنعون و إباحته كما يُبَاحُ سُقْي الماء فلا نُصح ولا توجيه.

و الآن وبعد ذلك العرض للجانين و المجني عليهم و مطالعة أوراق القضية سنفيكم بالحكم بعد المداولة □

تعالت الهمسات واللمزات بقاعة المحكمة و تلون أصحابها ما بين مُتَرَقِب و ضَجِر، راضٍ و قانط، عالمٍ بما يجري و لاهٍ عابث لا يفقه شيئًا و لا يهتم، مُتَخَبِط بين الصواب و الخطأ، وأخير يسبح مع التيار مَدَّا كان أو جَزْرًا فما يعبأ به أَلَّا يُعانيَ ثِقَلَ الفكر و الإختيار .

                    ■محكمة■

جهر  بها الصوت معلنًا قيام الساعة؛ ساعة ولادة قرار، قرار بالإبادة؛ إبادة كل مايُميت الحياة أو يَهِنُها بدعوي العجز و القهر.

□ حكمت المحكمة حُضُوريا علي المتهمين بالعقوبة الواجبة و مفادها؛ علي كل شاحذٍ عقاب يرادف جنس عمله، فمن كانت فعلته كذبًا كُوِيَ لسانه ليلفظ الكذب من طرفه ولا يتهجأه  بعدها، ومن كان كَسولًا كُلِّف بعملٍ لا يتركه إلا لسريرٍ يلتقط نهج أنفاسه أمَّا من احتال وخَطَفَ نُزِع فلذ كبده نَكَالًا بما صنع ثم بعد ذلك العقاب التمهيدي  للمُتهَمين يُلْحقون بمدرسة التعمير يُعَمَّرُون فيها ويتعلمون كيف يُعَمِّرون كذلك، وينسلخون عن كل شحذٍ و هوان يدحض حقهم في استخلاص إنسانيتهم وكوامن قوتها.

كما حكمت المحكمة بِسَنِّ قانونٍ يَنُصُّ علي ضرورة تعبئة الصيدليات كافة بِمَصْلٍ لوقاية الناس من الوقوع بِشِرْكِ هذا المرض المُتَفَشِي ويَحِدُّ بل يقطع أي وَصْلٍ من قِبَلِهِم قد ينسج شِبَاكَ الشَّحْذِ من جديد و ليُرْفَعُ علم البلاد مُرفرفًا بتلك الحكمة
         《لا تُعْطِنِي سمكة بل عَلِّمْنِي كيف أصطادها 》

و لكن ... لَمْ تُغْلَقْ القضية بعد، فقد حكمنا نحن بإحالة أوراقها إلي جمهور القراء من أمثال بطلنا هذا _المجني عليه_ لِعِلْمِنا يَقِينًا بأن قضيتنا تلك قُسِّمَت علي كاهلين؛ أحدهما جاني و الآخر وإن كان مَجْنِيًّا عليه فلم تبرأ ذمته من الإسهام بتلك الجناية، ولذلك
     
لن يرفع القلم أو تجف الصحف إلا بما تزنه عقولكم و تصنعه أيديكم؛ فلن يَكُفُّ الشَحَّاذُ عن الأخذِ حتي تكُفُّوا أنتم عن ضلال سداد التصرف وجوهر العطاء،
   
                《فماذا أنتم فاعلون؟ 》

رُفِعَت الجلسة بل لم تُرفَع بعد؛ فمطرقة الحكم بين قبضتي رأيكم.

          
                         

                         " تمت بحمد الله"     

  ................................................................................

** بتأثر من الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه.

© آنسة سلحفاة ( سولكاتا),
книга «شحاذ».
Коментарі