كِفاح
كِفاح

Namjoon's pov.

"ناولني الملح"
تحدثت برزانةٍ وعينايَ تحدِقُ بهدوء على المِقلاةِ البالية التي أحاطها السواد من كل ناحية.

لتُناولني أيدٍ صغيرة و علبة الملح، بدأتُ بالرش في البيض الذي ينتظر أن يُطهى بشغفٍ.

إرتشفتُ من سيجاراتي و كأنه رشفتي الأخيرة و تركتُ المقلاةَ جانباً و أمسكَتُ بالجريدةِ أقرأ أهم الأخبار لهذا اليوم الروتيني.

ليأتي الطفل الصغير ذو العَينانِ اللاتي جعلنَ عمق المحيط يحسده للونهما الفاتنين.

وضعَ كُرسي بجانب الفرن و إرتقاه ليتناول الملعقة و يبدأ بتقليب البيض يتظاهر بأنه كبير و مسؤول.

"إنتبه مارك"
تمتمتُ بعدما إسترقتُ بضعَ نظراتٍ من طرف جريدتي.

لم يمُر الكثير من الوقت حتى أنزلتُ فتَايَ أرضاً ليتجه لناحية الصحون و يُرتبها على الطاولة، كان يُحاول أن يساعد بكل ما يستطيع.

أما أنا فقد تناولت الملعقة و قلبتُ البيض لآخر مرةٍ ثمَ أُطفأتُ النار.

"هل وضَعت الصحون؟ "
سألتُ وأنا أتذوقُ البيض لأسمع همهماته في الخلف.

أخذتُ المِقلاة و ألقيت بالبيض في صحنٍ و تركتُ الآخر فارغاً لأترك كل ما بيدي فأجلسُ بعدما أنهيت سيجارتي.

جلس الفتى ذو الست سنين لينظر لصحنه المليء بالطعام، ثم صحني الفارغ، أملتُ أن لا يتحدث لكن حدث العكسُ إذ قالَ.

"ألن تأكل من الصحن؟ "

نظرت لصحني و أعدتُ أنظاري إليه.
"لا.. لستُ جائعاً"

في تلك اللحظة بالتحديد، شعرتُ ببطني يتلوى جوعاً فإمتعضتُ و ضغطتُ بيدي على معدتي أسفل الطاولة علَّ الألم يفارقني.

لم يهمني كثيراً مظهري الهزيل، كان جل إهتمامي هو ذاك الطفل الصغير تحتَ رعايتي.

"بابا أنا لن أنهي كل هذا"

سرعان ما إبتسمتُ لِذِكْرِي بهذه الطريقة ثم ربتُ بخفةٍ على رأسه الذي إمتلك شعراً ذو خصلٍ ذهبية.
"هيا و إلا لن نذهبَ سوياً للعمل"

تنهدَ يُبدي لي عدم رضاه لأتجاهله ثم حدق بصحنه ليتناول الشوكه و يبدأ بالأكل و لم يمُر الكثير من الوقت حتى إمتلأ فمه بالطعام.

تحدث بكلامٍ غير مفهوم لأشير له بالصمت.
"نحنُ لا نتحدث أثناء الأكل مارك"

لطالما بدوت سَمِجاً حين أخبره بأن يفعل هذا ولا يفعل ذاك و يترك هذا و ذاك، و مع هذا هو بقي يقبلني قبل النوم ويخبرني بأنه يحبني.

بادر مارك بغرس شوكته في البيض مرةً أخرى و قربه لشفتاي و قد أنهى لقمته و أنبس.
"قل آهه"

إبتسمتُ أشعر بالدفء حتى و إن كان البردُ القارص يطغى في هذه الفترة من السنة، و حتى لو كانت النافذة المكسورة لا تمنع دخول الهواء البارد،كنت أشعر بدفء بجانبه.

تركني والداي عندما كان عُمري يناهز الثامنة عشر، صُدمت، لا بل كنت أكن لهما غضباً و كرهاً لتركهما لي و الموت هكذا.

فقدتُ دفء سرير، و صوت أمي الهادئ و أبي الصارم، و وجدتُ كل هذا في صغيري هنا.

كان ذلك الطفل ناراً مُشتعلةً في صدري الفارغ، لقد كانَ أنساً لوحدتي، كان يُنسيني فقري المُدقع و وحدتي الموجعة.

كان يجبِرُ جروحي، و كان كالمسكن لليالي الصعبة الطويلة، إذ كان يبقي يحكي لي بعض الأشياء الخيالية.

فتحتُ فاهي مستقبلاً الطعام و الإبتسامةُ تشقُ وجنتَيه، لا.. ليس كالشق المُرَقَع في قميصه، بل كانت كالريشةِ في إنحنائها و نعومتها.

وددتُ لو أرد له الكثير من الجميل، كأن أطعمه نوعاً جيداً من الطعام بدل البيض و الفطائر.

وددت لو أستطيع شراء الملابس الجيدة له، وددت تقديم الكثير لكن يداي ترتعشُ تحت أربطة الفقر.

بدأت بالمضغ مُبتسماً و أنا أعبث بشعره شديد النعومة و الإنسدال.

ليهدأ كلُ شيء حولي و يتوقفَ بي الزمن، و كأنما القدر يسخرُ مني حيث أنه جعل كل شيء يصمت فقط ليُذكِرَني كيف كان لقائي بمارك قديماً.

ليُذكرني كيف كان البرد قارصاً كالآن،و كانت الطُرقات تُعلن إبتعاد الناس عنها، أرحتُ عيناي و أنا أتكئ على يدي و أحوم حول الذكريات.

Flash back.

كأي يومٍ روتيني من أيام حياتي العادية، كنت أمشي عائداً من العمل و قد طلبت من المدير أن يزيد ساعات العمل لكي أكسب مالاً أكثر.

كان الظلام حالكٌ و مؤلم، كان يُذكرني بالكثير و كان يجعل من قلبي في حالة عبوسٍ هائم.

لم يكن هناك أي سيارة تصدر صوتاً لتُبعدني عن عُنف الهدوء هذا.

أتساءل بهدوء عن كثيرٍ من الأشياء حولي و أنا أختبئ من أضواء المدينةَ كالمجرم الذي هرب مرتعباً من الدُنيا المملة.

توقفتُ لحظةً عندَ سماعي بُكاءً جعلني أهلع،تلفتتُ كالمجنون لكني مُتأكدٌ بأن لا أحد بقُربي ليعودَ صوتُ البكاء أعلى و أعلى جاعلاً مني أتأهبُ لأي شيء.

إستجمعتُ شجاعتي و مشيتُ ناحية الصوت الذي قادني لزُقاقٍ بقرب حاويةِ قمامة.

توقفَ بي الزمن، هل ما أراهُ حقيقي،كان هذا كلُ ما أفكر به.

طفلٌ رضيعٌ قد إرتخت ملاآته فجعلته عرضةً لهذا البرد، إزدردتُ ريقي و قلبي قد دخل نزالاً.

أعدتُ لف الطفل بالطريقة التي قد باتت مُناسبه، و بعد الحركة الكثيرة لقيتُ رسالة.

"فالتكن بخيرٍ بني

أمك التي تركتك"

كانت مشاعري تتقاتلُ بالداخل، تركت إبنها هكذا في العراء،حسناً نحنُ نتشاركُ في كثير من الأشياء.

خلعتُ معطفي الذي بذلتُ لأحصل عليه عرق جبيني، و أخفيتُ جسده الصغير و نهضتكُ و إبتعدتُ سريعاً و أنا أفرك كتفاي بسبب الأجواء.

كنتُ خائفاً، في نفس الوقت أزدري نفسي لترك الطفل هكذا.

لكن بحق الإله مالذي سيقولونه حين يرونني أربي طفلاً، وهم لم يرونني من قبل مع فتاة.

عدتُ أدراجي مُسرعاً و تناولتُ الطفل في أحضاني، لا أعلم مالذي دهاني تحديداً فمالي لا يكفيني فكيف سأصرف عليه.

حدقتُ به، كم كان جميلاً آن ذاك و لازال بذاك الجمال البريء.

جعدتُ حاجباي و أخذتُ نفساً طويلاً لأتمتم بعدها.
"مارك..

هذا سيكون إسمك"

مشيتُ به للمنزل و لازالت أصواتٌ بداخلي تُناشدني بتركه لكن جزءٍ مني كره الوحده.

و للحظةٍ أردت أن أكونَ أباً،لا يُهم كيف، أردتُ طفلاً معي.

لذا لم أهتم و مشيت للمنزل حتى وصلت، كانت الشقة التي أسكن بها عبارةً عن قبوٍ في أعلى بنايةٍ تشاركها زوجان و إمرأةٌ عازبة بالإضافة لمالك المنزل و زوجته.

دخلتُ المنزل و أنا أتسلل بهدوء كي لا أوقض أحداً لأصعد السلم مُتجهاً لمنزلي و فجأةً بدأ الطفل بالبكاء.
توترت و بدأت بالمشي سريعاً ناحية باب الغُرفة لأسمع صوت باب يُفتح.

"نامجون بحق اللعنة هل هذا أنت"
كان مالك المنزل يهتف من الأسفل، مشيراً لي فقد كنت دائماً للأسف من أفتعل ضجةً و أذى.

سمعتُ خطواته تصعد لأرتعب و أُسقط المفاتيح من يدي فأحتضنُ الطفل كما لو كنت أخبأه، ليفضحني بكاؤه الذي إرتفع.

"مالذي يجري.. "
صمت عندما رآني و أنا أخبئ الفتى.

"أهذا لك؟"
تمتم متفاجئاً مشيراً برأسه ناحية مارك.

صمتت للحظةٍ لأومئ ببطء، ليقترب ناحيتي وعيناه أخافتني فتراجعت، لقد بدا خائفاً عليه مني.

"هل جننت؟ إنك بالكاد يمكنك توفير المال لسكنك! "
و هكذا دون مقدمات تدخل في شؤوني و رأيت فيه خوفاً، وقد كسرني حدِيثه و بقي في صميمي.

"هل تُريد إنهاء مُستقبله مُبكراً

لما لم تَكن مسؤلاً قبل العبث مع أياً كانت"

همست
"لم أعبث

إنه....لقيط"

إزدرد ريقه ليهدأ قليلاً و لابد و أنه تفهم مشاعري بحكم أن زوجته لم تستطع الإنجاب.
"حملتَ طفلاً من الشارع؟ "

أومأت و أنا أحدق مباشرةً لعيناه، أخفي خوفاً لم أكن أفهمه.

"حسناً إن كان هذا هو قرارك

إنتظر هنا سآتي بعد قليل"
تحدث وهو يبتعد و الهدوء قد غلفه.

حضنتُ مارك و كأنه تذكرتي للسعادة التي على وشك أن تُحرق.

نهضتُ و هندمت نفسي و تناولت المفتاح لأفتح الباب و أضع مارك فوق سريري ذو الأعمدة الحديدية الصدئة.

عدت للخارج منتظراً المالك مخفياً يداي في جيبي، ليظهر و في يده حقيبة، إقترب ناحيتي و ناولني إياها.

"إنها كانت لإبني.. لكن كما تعلم"
صمت و عندها تذكرت ما حدث مع زوجته فقضمتُ شفتي السُفلى أسفاً .

"فيها كل ما تحتاجه"

لم أرفع ناظري عن الأرض لكي لا يلامس مشاعري.
"شكراً لك"

إنتهى الأمر بي أرعى هذا الصغير الذي كان نشوةً لمشاعري البائسة.

لم يطرأ لبالي أن الدُنيا قد تعَوضُني عن كل المآسِي المقرفة التي مررت بها بهذا العبء الجميل!

End flash back.

صحوتُ من نوبة حلمي الهادئ بالشوكة تلاصق شفتاي مرةً أخرى لأعود و أتلقى لقمةً طيبة.

أنهى طعامه لأتجه لخزانة الملابس التي كانت قريبةً من سرير و أستعد للذهاب للعمل.

لقد كانت غرفتي عبارةً عن غرفة كبيرة فيها طاولة طعام و عدة كراسٍ بينما في الجهةِ المقابلة كان هناك فرن عادي و ثلاجةٌ صغيرة الحجم، بالإضافة لعدة أدراج و حمام، أما سرير فقد كان بالقرب من طاولةٍ صغيرة.

إرتديتُ ماقد يرفع من مكانتي أمام المجتمع ولو قليلاً و نظرتُ لمارك من كان قميصه مرقعاً لأناديه فيقترب.
ألبسته قميصاً كنت لا ألبسه إياه إلا إذا كنا خارجين لمكان مهم.

لكني لم أرد أن يبدو بمظهرٍ رث في الخارج ،أنهينا إستعدادنا لأتناول يده و أتجه خارج شقتي.

مررتُ بسُكان المبنَى وهم قاعِدون سوياً يتبادلون أطراف الحديث عند الباب فحياهم مارك وهو يلوح بيده.

لأبتسم و أنبس.
"صباح الخير جميعاً"

الجميع إبتسموا و بدأو يحيووننا لتقترب جوليا،تلك الرُوح الطاهرة، فشعرت بموجة إضطراب أطلقها قلبي حينما دنت لمارك.

رفعت نظرها ناحيتي و إزداد إضطرابي ثم إبتَسَمَت،بينما إختنقْتُ و للحظة شعرت بأنها تسمع دقات قلبي لقوتها.
"إنتبه لطريقك"

إزدردت ريقي و أنا أبتسم، أومأت لأبتعد بعد قليلٍ أنا و مارك.

ثم بقيت شارداً للحظةٍ أفكر بحلٍ لما أواجهه من ضيقةٍ بسبب أني لم أعترف لها بشيء،و أعاتب نفسي بهدوء للنظر لها،فأنا في ال25 و أحتاجُ لشريك في حياتي قد يُنسيني بعض وَحدتي.

لكن هذا لا يعني بأنه يجب أن أتأمل لمس القمر!.

حتى و إن كان، هناك فارقٌ كبير بيني و بينها، فنحنُ مختلفا الجنسية،و المظهر، لا يجمعنا سوى اللغة التي تربيت وهي حولي.

و بينما كانت تحمل جمالاً آسراً للأنفاس كان وجهي يتهالكُ يوماً بعد يوم،هيَ كانت كلَّ شيءٍ يتمناه المرء، بينما لم أكن أساوي شيئاً.

حركني مارك بهدوء لأعود لوعي
"بابا لقد أعطتني السيدة جوليا دولارين و همست لي بأن لا أخبرك "
تحدث وهو يلوح بيديه بطفولية.

نظرت له مستغرباً فقد كان هذا مبلغاً كبيراً.
"أحقاً هذا؟ "

أومأ وهو يُخرج المال من جيبه،إبتسمتُ بهدوء.
"ألم أخبرك بأن لا تأخذ المال من أحد"

حدق بالأرض و بدأ يعبث بأصابعه.
"أنا آسف"

إنحيت بجسدي كله لمستواه و ربتتُ على ظهري.
"تحصُل على مكافأة بسبب إعتذارك.

هيا إركب"

سمعته يقهقه و هو يحيط بيديه عنقي، حملته بهدوء و بدأت بالمشي.

توقفت للحظة

تأملتُ الرصيف الذي أصبح يتهاوى حولي،كانت أنظاري مشوشة و مرهقة بسبب الجوع الذي تملك معدتي.

أما مارك فقد أراح كل جسده على ظهري وهو يتمتم أغنية كنت قد علمتها له، فإبتسمت بوهن لأكمل السير.

وصلت أخيراً لموقع عملي ألا وهو محل بقالةٍ صغير، إقتربت و فتحت الباب، دخلتُ و أنزلت مارك ليتجه لمكانه المعتاد.

بينما أنا فعلتُ بعض الأشياء الأساسية من تنظيفٍ و ترتيب، و معدتي تصرخ و تتلوى و لكني أتظاهر القوة التي لم أمتلكها.

إتجهت لمكاني بجانب خزنة المال لأتأمل مارك من يجلس على كرسيٍ بقربي و يلعب بسيارةٍ بلاستيكية صغيرة و يمثل سيناريو لطيف.

تأملت للحظةً لو يعودُ الزمن، لتلك اللحظة التي كنتُ ألعبُ بها مع والداي بهذه اللعب.

ثوانٍ مرت ليُداهمنا مالك البقالة فيدخُل مارك لتحت الطاولة و يُبقي على صمته.

"أأحضرتَ الطفل؟ "
سأل وهو يُحدق لي بطرف عينه.

زفرتُ نفساً فقد مللتُ من نفس الشريط الذي يتكرر يوماً خلف يوم لِيَلِيه يومٌ آخر.

"إنه بالمنزل!"
أجبت بنفس لكنته العدائية.


"جيد، أنك لم تجلبه.. "

تمتم وهو يمشي بين رفوف الطعام يتأكد منها و من نظافتها.

إقترب ناحيتي و تحدث
"لا أريد أن أرى طفلك هنا في الأرجاء أتفهمني؟ "

في تلك اللحظة كانت أطرافي تصرخ
"سأقتله"
وهي ترتعش

صدري في علوٍ و هبوط متواصل، و كأنما أهان شرفي.

إبتعد خارجاً أخيراً ليهمس لي مارك.
"ذهب؟ "

نظرتُ إليه ليهدأ الجموح الذي تملكني.
"أجل عزيزي"

تسلق الكرسي الذي كنت أجلس عليه لينتهي به الأمر في جحري يحدق بوجهي وهو يبتسم.
"بابا لما أنت غاضبٌ اليوم؟ "

سرعان ما إبتسمتُ إبتسامةً واسعة
"لأن ماركي لم يُقبلني عندما إستيقظت من النوم"

بدى الأسف على محياه و إقتربَ سريعاً و قبل خدي لأبتسم
"أنا سعيد الآن"
تحدثت و أنا أمسح بيدي رأسه.

إرتمى على صدري بينما يدي نزلت تُمسد معدتي المتألمة محاولةً التخَفي،و يدي الأخرى أحاطت جسده الضئيل كالسور.

فجأة إنزلق مني و إبتعد عن طاولة المحاسبة و بدأ بالمشي بين المأكولات حتى وصل أخيراً لرف الحلويات، بينما إتكأت على يدي و حدقتُ به و قد هَوت نفسي، و شَحب وجهي و إنحنى ظهري .

سحبَ له عدة حلويات و إقترب ناحيتي،إرتفع على أطراف أصابعه و مد لي يداه المليئة بالحلوى و يده الأخرى التي كانت تقبض على المال جيداً.

"هل يمكنني الحصول علي هذا"

أومأتُ بهدوء و تناولت المال و أعدتُ بضع سنتات له، ليعود بجانبي و يبدأ بالأكل و تلطيخ وجهه.

أخذتُ منديلاً و بدأت أمسح شفتاه و خداه
"لا تُلطخ ملابسك"

أخذ الألم مأخذه من جسدي، و بدأ مزاجي يتعكر و مع حظور الكثير من الزبائن أوشكتُ على الإنهيار.

بدأت الشمسُ تنعس، فهاهي تبتعد و تتركني مع الظلام، عشيقي الدافئ.

إبتعدت و كأنها تشفق علي.

نظرتُ جانباً فكان مارك يسحب طرف قميصي ثم قال
"إحكي لي قصة"
بأدنى صوته،لأنه علم باني لست في مزاجٍ مناسب.

رفعته لحظني و أراح رأسه على عنقي و جسده بالكامل كان يُلامس صدري.

بدأت بالتحدث و أنا أقبل جبينه تارةً و أمسد كتفه تارةً أخرى.

"و عِندها تقدم الملك و.. "
و بينما كنت أتحدث، دنوتُ برأسي أُحدق بوجه صغيري الذي قد غط نائماً دون تنبيهي.

أرحتُ رأسي للخلف و أغمضتُ عيناي و إحتضنتُه و قربته لقلبي، الذي دقاته كانت كتهويدةٍ له.

غِبتُ عن العالم كعادتي و أنا على أتم العلم بأن وجودي أو عدمه لن يفرق.

غفوت أنا الآخر على الكرسي و عمَّ المكان الهدوء التام،بعدها أيقظني صوت إمرأةٍ نافس زقزقة العصافير في رنته الجميلة.
"المعذرة؟ "

وعيتُ و إعترتني رجفةٌ فلقد إعتقدتها مالك البقالة للحظة حتى تحققت من الأمر.

"أعتذر على إزعاجك"
إبتسَمَت لأبتسمَ أنا الآخر.

"لا.. لا عليك"
تمتمت و قد زحفتُ بالكرسي لأصبح أقرب،و أنا لا أزال ممسكاً بمارك.

ناولتني بعض الحاجيات و المال لأحسب سعرها و أعيد لها الباقي و بينما كنت أجمع أغراضها في كيس بينما هي تساعدني.

سألَت
"أهذا إبنك؟ "

لا بد وأنها لاحظت الإختلاف الشاسع بيني و بينه لكني تجاهلت ما تُفكر به و أومأت مُبتسماً لتمسح على رأسه
"كم هو لطيف"

لازلتُ أبتسم،لتبتعدت مودعة فأُرخي رأسي مجدداً وقد قطبتُ حاجباي مُتألماً.

لم يمر الكثير من الليل حتى أتى العامل الآخر من يتولى وردية الليل لأحمل مارك على ظهري و أعود للمنزل.

وصلتُ ثم وضعتُ مارك على السرير و إتجهت للثلاجة الصغيرة و أخرجت بعض العجين الذي تركته في الثلاجة ليخمر.

أرقتُ العجين و بدأت بطهوة و تمنيت لو ان مارك كان مستيقظاً ليشاركني العشاء الذي كان عبارةً عن فطائر محلاة.

أنهيتُ الطعام و نهضت، غيرتُ ملابسي و إرتديتُ ما قد يُريحني و تناولت كتاباً من جانب سريري.

تأكدتُ من غطاء مارك و إتجهت خارج المنزل و أنا أُشعل سيجارةً و ممسكاً الكتاب.

لطالما كانت القراءة خارج المنزل في الهواء العليل و الإضاءة الخافته ممتعة لحد الجنون،وصلت خارجاً و أغلقت باب المنزل الرئيسي و جلستُ على عتبةِ الباب.
أقرأ و رائحة النيكوتين تغطيني كما لو انها عِطرٌ ذو علامة تجارية عالمية.

تجرني الكلمات بعيداً عن هذا العالم، تخرجني من وحل الحياة الروتينية المملة.

و بينما انا مشغول بالقراءة لم أنتبه لجوليا التي كانت قادمة ناحية الباب.

تحنحنت تسلب إنتباهي بعيداً عن الكتاب، إبتعدتُ سريعاً عن الباب و أنا أُحدق بها.

توقفت تُراقبني، و أنا لازلت أتظاهر بأني طبيعي.
"ما بك تجلس هنا وحيداً؟"

"لا شيء

أقرأ كتاباً و أُدخن بعض السجائر"

توقفت تتأملني بينما بدأ الوقت بلعب لعبته التي كانت تتمحور حول جعل الوقت أبطأ.

لقد كان آسراً،كيف كانت تحيطني بعيناها السوداوانِ و كأني ناطحةُ سحاب بجانبها .

كانت ضئيلة بالنسبة لجسدي،كنت أستطيع إخفاءها بين ملابسي و الهرب كم كانت لحظةً تمنيتُ فيها أن أحتضنها و أبتعد عن الناس أجمعين.

حركت شفتاها الحمراوان.
"هل تُريد شرب بعض الحليب الساخن بالأعلى؟ "

بقيت صامتاً و كأن البرد قد صفعني بقوة لأعود لوعيي و أتمتم.
"لا بأس بهذا"

إبتسمت و سبقتني للداخل بينما تبعتها،حينما كانت تفتح باب شقتها، إعتذرتُ منها بأني سأذهب للإطمئنان على مارك و سأعود.

إتجهت سريعاً لشقتي و دخلت،إقتربت لجسده الصغير و غطيته جيداً،دنوت لأقبله فإنصدمت لخداه اللذان كانا كقطعتي جليد.

إتجهت للنافذة المكسورة و حاولت تكديس الكثير من الأشياء لتغطية الفتحة،و عدت لفتَاي و أخرجت عدة معاطف و غطيته بها.

قبلت جبينه مرةً أخيرة و إتجهت خارجاً.

عدت لغرفة جوليا و وجدت الباب مفتوح بخفه، فطرقتُ الباب معلناً أني هنا، لتهتف.
"تفضل"

خطَوت للداخل بخطواتٍ متقاربة و بطيئة، لتظهر هي من العدم بقميصٍ طويلٍ ذو أكمام تغطي كفيها.

أمسكت بيدي بعفويةٍ تامة تسحبني لمطبخها، ثم تركتني بجانب طاولة طعام محاطة بعدة كراسي.

"إجلس، لقد أوشكتُ على إنهاء الحليب"
أشارت بيدها تَمحي الكُلفةَ بيننا، و جلستُ بهدوء.

إزدردت ريقي فأنا لم أكن مستعداً لهذا كله، و بينما كنت أحدق بها جذبني منظر سيقانها لأحمرَّ بخفةٍ و أشيح برأسي للجهة اليمنى من المطبخ و أبقيها في تلك الناحية.

رائع! لقد أصبحتُ منحرفاً.

سمعت صوت قرع الكوب بالطاولة فإلتفتن ناحيتها و سرقتُ عدة نظرات من جسدها

أحطت كوب الحليب بيداي، بينما هي جلست أمامي وعيناها لا تفارقني.

خالجني شعورٌ غير مُريح بخصوص هذا، بدأت أرتشف بهدوء و الصمت جعل مني كلباً وديعاً.

"نامجون؟ "
نطقَت إسمي ليرتجف قلبي، رفعتُ رأسي من الكوب لتبتسم.

"ماهي أحوالك مؤخراً؟"
تحدثت وهي تمسح بباطن كفها الكوب.

و قد رأيت محاولاته لخلق حديث لأُسايرها مع إبتسامةٍ خفيفة.

"لا بأس، و ماذا عنك؟ "

"أه.. أنا بخير"

"ما أحوال سام؟ "
للحظة لم أصدق بأني سألتُ عن حبيبها لتبتسم بإرهاق و تحك أخر عنقها.

"لم نعد بخير مؤخراً"
رأيت إضطراب ملامحها.

أبديت التفاجؤ و أخفيت الإحتفال الذي كان يجري في أعماقي، فأنا لم أكن مشاعراً وفيقةً له.

تمتَمتُ حين لاحظت بأنها تحاول الإنطلاق في ذاك المنحنى.

"إن أردتي الحديث بخصوص هذا الأمر.."
صمتت بهدوء لتكتمل المسرحية و تنجح خُطتي وها هي تبدأ حديثها.

"مؤخراً أصبح... يمر بكثير من الإضطرابات"
حدَّقَت بفخذيها لأشعر بأن هناك امراً ليس جيداً

"و أيضاً؟"
سألت أحاول سحب بعض الحديث

"وقد إعتدى علي ضرباً.. "

قاطعتُ حديثها بنوبةِ سُعالٍ حادة فاجَأَتْها،ثم رَفعَت جسدها و إقتربت تمسد على ظهري.

"لما سمحتي له؟!! "
هتفت و كان صوتي أشبه بالصراخ و قد تلاقت أعيننا و رأت الشرر يتطاير منها.

لقد كنت مُندفعاً،و أراهن بأني قد كشفت كل أوراقي بتهوري هذا.

لتتحدث هي بهدوء دافئ جعلني أشعر بالثبوط.
"لقد إعتذر لاحقاً،و أبدا أسفه لكني لم أعد أكن له نفس المشاعر،و لقد مر وقت طويل منذ أن تلاقينا آخر مرة"

"إن هذا لا يغفر له فعلته جوليا! "
لازالت تتلقى موجات غضب في صوتي حتى و إن كنت أحاول أن أخفيها.

صمتَ كلانا بعدما شعرت بأنه لا يجب عليها أن تخوض في الموضوع.

و بقيت في حالة صدمة من ما سمعته، لتتحدث هي تحاول تحسين الجو.

"كيف كان يومك؟"

"لاشيء مهم، ذهبت للعمل برفقة مارك ثم عدنا قبل نصف ساعةٍ تقريباً."

"أنا حقاً مُعجبةٌ بمارك، فالتحتفظ به من أجلي في المستقبل"
قَهقَهْتُ لحديثها و قد تحسن مزاجي حين رأيت إبتسامتها.

"أنا مُتأكدة بأن والدته كانت حقاً جميلة"

رددت عليها بصوت ينخفض تدريجياً
"أجل... أعتقد هذا"

رأيتُ حاجباها ينعَقدان بسبب ردِّي لأتحدث سريعاً
"لم أرى والدته مسبقاً! "


"كيف هذا! "

تحدثت بتساؤل

بينما أنا قد تملكني التوتر و بدأت قدماي بالحركة بعشوائية أسفل الطاولة، لم أكن أشعر بتلك الثقة لإخبارها.

"إن مارك..آمم..

لا يمكنك القول بأنه إبني، فأنا لم أعبث مع فتاة مسبقاً"
أنزلت أنظاري لتنبس.

"أعتذر إذا كان الأمر خاصاً و "

قاطعتها و انا أبتسم
"لا..لقد نفختي الغُبار عن بعض الذكريات، أنا لستُ والده و ليس بيني وبينه أي شيء، عدا أني وجدته في الشارع ولا أعلم ما دهاني حقيقةً لكني قررت الإعتناء به"

التفاجؤ إعتلاها بينما إبتسمتُ بخفه و كأن الأمر تافهٌ لأبعدِ حدود ثم تحدَثْتْ أُمازحها
"لم أخبر أحداً عداك و مالك المبنى لذا أبقي الأمر سراً"

قَهقَهَت وهي تُغطي شفتاها
"سيبقى سراً أعدك!"

صمتت قليلاً ثم إنطلقت بالحديث
"ه.. هذا يعني أنك لم..

تعلم.. فعلت-"

أجبت سريعاً أقاطعها فقد فهمت ما تعنيه

"أبداً "

زفَرَت بهدوءٍ ثم حَدقت بي بعد صمتٍ دام أبداً.
"نامجون، لا أعلم، لكن القدر لن يمنحني هذه الفرصة مجدداً، لذا.. يجب علي إخبارك الآن

أنا أُكن لك... المشاعر"

رمشتُ عدةَ مراتٍ غير مصدقٍ ما سمعته، وشعرتُ بغصةٍ تسُد حنجرتي.
"لكنك

مرتبطة"
تمتمت و كأني أحاول بكل حماقة أن أدمر فرصتي بقبولها.

"سأتركه.. "

إزدردت ريقي.
"ل.. لا أعلم جوليا!

لا أمانع هذا لكن، هل تعتقدين بأن الأمر سينجح

أعني.. مارك، مسؤولياتي بالإضافة لأني.."

صمَتتُ و قلبِي يعتصر فلن أجرؤ على القول بأني فقير!

"لا تفكر بالمال، ولا يشغل بالك مارك، أعني... يمكننا حل كل شيء سوياً"
تحدَثَت كمن يتطلع للمستقبلِ بشغف، وقد أُعجِبتُ بتلك الشرارة في مقلتها.

لتهدأ حينما رأتني صامتاً لا أجيب، و أنبست بلكنة خائبة الأمال.
"إن كنت لا تثق بهذا الأمر أو تفكر بالإرتباط بفتاة فلا بأس بهذا "

نبضات قلبي تتسابق، لأحدق بها مباشرةً لا أعلم من أي أتتني الجرأه للتفوه بهذا

"صدقيني،حتى الأحمق لن يترك فرصة الإرتباط بك"

إلتمحتُ إبتسامتها فشعرتُ بالقليل من الراحة و الوفاق معها.

و لكني في تلك اللحظة لا زلت متردداً و مضطرباً كالطفل الصغير .

"بابا! "
فجأةً سمِعتُ صوت مارك يتسلل لأذناي، نهضتُ سريعاً متجاهلاً كل ما هو حولي و إنطلقتُ خارجاً و تبعتني جوليا.

فتحت باب شقتها لأسمع صوت مارك اللذي خالطه نحيب و إعوجاج، تبعتُ الصوت لأتفاجأ به يمشي في انحاء المبنى يصرخ باحثاً عني.

هرعت ناحيته وجثوت مُخفياً جسده بداخل طيات ملابسي ثم أسكتته بلطف.
"أشش

إهدأ عزيزي، إنني هُنا"

تشبث بقميصي و شد عليه وهو ينتحب رفعته و نظرتُ لجوليا من كانت تبتسم.

مسحت بهدوءٍ على ظهره
"إهدأ صغيري كي لا نوقظ الجيران"

بدأ يشهق بهدوء بينما عدنا جميعاً لشقة جوليا ولازال مخفٍ وجهه في عنقي.

جلسنا في نفس الأمكنة التي كنا فيها مسبقاً و نظرتُ لوجه مارك الذي قد إحمر بكاءً، للحظةٍ شعرتُ بأني أنا من ضاع لا هو.

"مابك؟

ألم تخبرني بأنك أصبحتَ رجلاً؟"
بدأتُ أداعِب وجنتاه

شهق مرةً أخرى
"إعتقدتُ أنك ذهبتَ بسبب أني أخذت المال من الخالة جوليا"
تَمْتمَ بصوت مخنوق

"عزيزي أنا لن أبتعد عنك مهما كان!"
تمتمت بها و أعدته لأحضاني لتخطف أنظاري جوليا من كانت تضع كوب حليب لمارك.

"مارك عزيزي، لقد أعددتُ لك الحليب بالشوكولاة"

همس له نامجون
"هيا عزيزي إنهض"

رفع مارك جسده و حدق بالكوب لأتناوله و أضعه بين يديه بهدوء، ليبدأ بإرتشاف الحليب ببطء.

بقيت أحدق بمارك بينما هي تصب جل أنظارها نحوي.

لقد كان إرتباطنا مُنحنىً جديد في حياتي، و في بعض الأحيان كان مارك يبدي إهتماماً ناحيتها و ينسى أمري و قد كان هذا أمراً طريفاً.

و بخصوص سام،لم أكن اهتم كثيراً بأمره و هذا الفعل أدى إلى أمر جلل.

فَفي إحدى الأيام ذات الأجواء المعتدلة،كنت أمشي سعيداً و كأني أُكَافأ على كل ما تحملته من ألم.

كانت جوليا تعانق يدي بأصابعها،و مارك كان يمشي أمامي وهو يقفز.

"مارك إحذر عزيزي!"

أنبَسَت لتُريني لأي مدىً هيَ تهتم به،لنَمُر بسيارة مُثلجات و قد رمقها مارك ثم تجاهلها و أكمل طريقه مشياً.

كنت قد حذرته مسبقاً من أن يطلبني أي شيء أمامها كوني لن أستطيع تحمل تكاليفه،لكني لم أستطع تحمل عيناه وهي تحدق بالأطفال المتكدسين هناك.

"مارك"
كانت قد أحاطته هالة هدوءٌ و ركود لأبتسم عندما إلتفت ناحيتي.

"ألا تريد شراء المثلجات؟"

إرتعشت شفتاه بخفه و علمتُ كم كان صعباً عليه قولها. "ل..لا شكراً"

قطبت حاجباي و قد إمتلكتني إبتسامةٌ هادئة إقتربت له و حملته فوق كتفاي،نظرت لجوليا.
"هيا جولي لنذهب لشراء المثلجات"

حملتُ مارك فوق كتفاي و مع أني لا أستطيع النظر لمارك لكني متيقنٌ تماماً بأنه مبتسمٌ بشدة،و السعادة تطفح منه.

من ما جعل قلبي يرفرف بأجنحته بعيداً ليلامس سماء السعادة.

وصلنا لأطلُبَ كوزين من المثلجات بنكهة الشوكولاة بعدما سألتهما عن نكهتهما المفضلة،و قدمت المال له و أنا أبتسم.

أعطيت مارك المثلجات ليُعانق ساقي وهو يتحدث بهدوء.
"أحبك"

بعدما وضعته أرضاً ثم أعطيت جوليا،و عدنا للمشي لأشعر بعدها بالكريمة تلطخ شفتي.

نظرت جانباً لأرى جوليا من كانت تريد أن نتشارك المثلجات و أنا كعادتي رفضت و لكن إنتهى بي الحال بمشاركتها.

إنتهت جولتنا البسيطة لنعود للمنزل فتناولت يد مارك و ودعتُ جوليا بعناقٍ سريع ،حياءً من الطفل بجانبي.
"وداعاً عزيزتي"
تمتمت.

ليلوح مارك بيديه.
"وداعاً خالتي جوليا!"

فتحت جوليا باب منزلها لتدخل و أنا قد إبتعدتُ ناحية شقتي.

و فجأة سمِعت صوت هُتاف جوليا
"توقَف!"

إرتعش جسدي و هرعتُ عائداً فصُراخها لا يُطمئن.

اخبرتُ مارك بأن يتجه للمنزل و لا يلحقني، و لكنه لأول مرةٍ لم يُطعني، فإنتظرني حتى إبتعدت و تبعني بسرعة.

وَصلتُ لأدفع الباب بقوة بعدما أبعدتُ مارك و أمرته بأن يذهب للمرةِ الثانية.

تفاجأتُ من منظر جوليا، من إمتلكت مشاعري بالكامل وهي تُصفع بكل قوة من الرجل الذي يفترض بأن يكون سام.

لقد كان يعتليها و يصفعها و قد أذاني هذا المنظر أكثر من أي شيء لتنتابني نوبة غضب و هيجان.

تقدمتُ سريعاً و ركلته بقدمي ليَسقُط جسده جانباً،ثم أعتليته و بدأت بإرسال كم من اللكمات المتتالية.

لقد أعماني منظرُ جوليا و قد حُفر بقلبي عميقاً و أذاني بشدة.

ألقيت بالكثير من الشتائم و السباب،وبدأت دماؤه تسيل و قد كان مارك يُحدق بكل هذا و يجهش بالبكاء، و جوليا أخذته في حضنها و إبتعدت تستنجدُ بسكان الشقة.

رفعني سام و دفع بي إلى الجدار فإرتطم رأسي بقوةٍ شديدة و قد شق الدماء طريقة لعنقِي.

ثم لكمني بقبضته الكبيرة، فأمسكت بيده قبل أن يشرع باللكمة الثانية و دفعته بكل ما أملك من طاقة .

تقدمت بسرعة ناحيته قبل ان يستعيد توازنه لكنه سبقني و ضربني لأتراجع ممسكاً بفكي.

بينما كنت أترنح تقدم و ألقى بي أرضاً،و ركل بطني بحذائه ليهرب الدماء من شفاهي، بقي يركلني في أنحاء جسدي، بعد مرور وقتٍ ظن بأني قد هلكت ليتوقف و يبتعد.

لكن غضبي في تلك اللحظة قد إزداد فنهضت و إنطلقت ناحيته و أنا أزمجر و أمسكته من وسطه و دفعته أرضاً.

إقتلبت الأدوار و أصبحتُ أنا من أركله، تناولت مظلةً كانت بجانب الباب و بدأت بالضرب.

ثم إعتليته سريعاً و أوسعته ضرباً حتى شعرت بأحد ينتشلني من مكاني بعيداً.

و في تلك اللحظة بالتحديد سمعت صوت بكاء مارك،و تمتمتَ الأناس حولنا و عدت للواقع.

تجاهلتُ المالك الذي سحبني و ذهبتُ إلى صغيري.

متناسياً الدماء التي تغطي شفتاي و عنقي، ليفزع مارك وهو يصرخ.
"بابا! بابا "

إقتربت جوليا و هي ممسكةٌ بمنديل و أردفَت بصوتها المرهق.
"إهدأ مارك، إن بابا بخير أنظر"

و شرعت في مسح كل الدماء في وجهي، ليلمس مارك بشرتي بكلتا يديه.
"بابا أرجوك!"

لا أعلم لما كان يترجاني لكن هذا آلمني،أكثر من اللكمات والركلات التي تلقيتها تواً، كان لهذه الكلمة طريقاً لصميم قلبي.

أخذته في عناقٍ دافئ كإعتذار عن ترجيه هذا.

لكن تولى سام مقاطعتنا، فبينما كان رجال المبنى هنا يمسكونه و ينوون إلقاءه خارجاً.

"سأنهي أمرك أيها اللعين، سأقضي عليك كما فعلت معي.

إني أعدك! "
صرخ بها وهو يبتعد لأقرب مارك لحضني و أتحدث بلهجةٍ هادئة.

"إهدأ ماركي

أنا بخير الآن"

لازال يشهق و و ينوح في حظني و كأني أحتضر أمامه، ذهب الجميع و بينما لازلت أمسك بمارك.

رفعت أنظاري لجوليا التي كانت تتكئ على الجدار و تراقبنا بصمت.

"هل.. أذاكي بشدة"
تحدثت و أنا أقطب حاجباي.

سرعان ما إبتسَمت لتظهر غمازةٌ تولت قتلي لهذه الليلة.
"ل.. لا تقلق علي"

بعد محاولاتي الفاشلة في تهدئة مارك دنت جوليا إلي و أمسكتني من ساعدي و رفعتني

"تعال لأعالج جروحك"

نظرتُ لمارك و تمتمت.
"دعيني أبقى معه لدقائق

سألحقك"

"حسناً أنا في المطبخ"

أومأت لها و دنوت لمارك من كان يمسح عيناه التي لوهلةٍ كانت كصنبور المياه.
"ماركي؟

عزيزي، أنظر لبابا"

رفع أنظاره لي و عيناه محمرتان و كأنها جَرَمٌ مشتعل، و أنفه محمر بلطف.

إقتربت و قبلته
"أنظر أنا بخير.

لقد ضربته بقوة وهو الآن يبكي عند والدته كالأطفال"
بدأ يبتسم و لكن حزن عيناه لازال يشوه اللوحة.

"ألم ترني و أنا ألكمه بقوة، أنظر لعضلاتي"
و رفعت كم قميصي ليبتسم حتى إختفت عيناه ليظهر صوت جوليا من الخلف.

"أتسمي هذه عضلات؟ "
إقتربت لترفع قميصها هي الأخرى.

"إني أملك عضلاتٍ أكبر من والدك"
قهقه مارك و بقيت أستمتع بتلك النظره السعيدة على وجهه و أنا ممتن لجوليا.

حملته بين يدي و نهضنا جميعاً لنتجه للمطبخ، جلست على كرسيٍ الذي قد أعدته جوليا.

و وضعتُ مارك في حضني و أحطته بيداي و كأنه سيطير مني في أي لحظةٍ،إقتربت جوليا و أخرجت علبة الإسعافات الأولية و أخذت مرهماً و بدأت بالمسح حول عيناي.

ثم أخذت معقماً و بدأت بوضعه في جرح كان قريباً من شفتاي،و بللت منديلاً و نظفت الدماء من وجهي

إقتربت لي لألاحظ شفتها التي جُرحت فتمردت يدي و إقتربت من ها حتى لامست أناملي شفتها لتتوقف هي عن الحركة.

بإبهامي مسحتُ بخفةٍ على شِفتها السُفلى
"لم تُخبريه بأمري صحيح؟ "

إبتعدت و بدأت ترمي بنظرات متوترة هنا و هناك لأتنهد بعمق.
"على الأقل هو لن يعود مجدداً"
تمتمت لكي أشعرها بأنه لا بأس، و إني لستُ غاضباً أو شيء من هذا القبيل.

عادت لمعالجة جروحي وهي صامته، و صادف بأنها أمسكت برأسي من الخلف.

لتهلع عندما رأت الدماء في يدها،كان شعري الأشقر ملطخاً بالدماء فقد نزفت بسبب الضربة التي تلقيتها من الجدار، و قد تسللت قطرات الدم لعنقي.

مسحتها جوليا،ثم تناولت الشاش و لفته حول رأسي بهدوء، أنزلت نظري لأجد مارك قد غفى على صدري.

صغيري المسكين، لقد تحمل فوق طاقته لليوم،ثم فجأة،شعرتُ بشفتا جوليا على جبيني، خالجني شعور عارم وجميل في قلبي.

أعطَت الفتَى في أحضَاني قبلةً هو الآخر لتُحدق بي، نهضْتُ و حملتُ مارك إلى الأريكة في غرفة المعيشة.

عُدتُ للمطبخ لأجدها واقفةٌ و موليةً الباب ظهرها لأقترب و أخطو خطوةً جريئة.

فأحطتُ جسدها بيداي لترتعش، إقتربت لها أكثر ثم
"أنتِ بأمانٍ بقربي"

فجأةً و بدونِ سابقِ إنذار نطقْت،توتري إختفى و حُلت عقدة لساني، أصبح قلبي يتحدث بأريحية تامة.

ذرفَت دمعةً هوت على قلبي بقوةٍ شديدة، فشددت على حضنها لتُتَمتِم.
"هذا حصل بسبب عدم إخباره

لقد كنت خائفةً منه!"

شعَرتُ بظهرها على صدري، إقتربْتُ لأقبل رأسها
"لا تبالي بما حدث"

هَدأَت قليلاً لتُغير وجهةَ جسدها و تقابلني، رفعتَ ذراعَيها حول عُنقي و دفنت نفسها في صدري.
عانقتُها و قد دنوت قليلاً،و بقينا صامتين.

ربما الصمتُ في هذه الأحوال يكون أفضل من التحدث بالتراهات، ربَما الصمتُ هو الفصيحُ هُنا بيننا.

إنتهت ليلتنا إذ عدت و مارك لغرفتنا بينما جوليا قد خلدت للنوم.

مشَيتُ بهدوء و مارك بين يدي كجثةٍ ميتة،فتحت باب الغرفة لأضع مارك على السرير بسرعة.

جسدي كان يتألم،لم أشعر بهذا الألم مسبقاً لقد أذيتُ جسدي بشدة.

أفسحتُ لي مكاناً في السرير بجانب مارك لأقبلة بسرعة و أنزل تحت الملاآت، عانقته كدميةٍ صغيرة فخبأ نفسه في صدري.

لينتهي بنا الحال نائمين.

مر الوقتُ مع جوليا و مارك كسرعةِ البرق لا أعلم ما بال السماء لكن من المؤكدٌ أنها قد أخطأت في عنوان الشخص الذي تُرسل له الهدايا.

إزداد القرب بيني و بين جوليا، أكاد لا أستطيع مفارقتها ليومٍ واحد، و أصبحتُ ثملاً برائحتها العبقة.

بينما هيَ إعتادت رائِحة سجَائرِي المُقرفة، و عملي اللذي يأخذ طول النهار، و الإعتناء بمارك في أثناء غيابي.

كلي يقينٌ بأنه لم يكن شقياً لكن الأمر يُنقص من إحترامي لنفسي، حتى وإن كانت هيَ من تطلب هذا.

فرَداً لمعروفها، و كشكرٍ لها قررت شراء هدية بسيطة، ألا وهي باقة وردٍ ذات لونٍ نافس إحمرار النبيذ.

فإحتفظتُ ببعض المال الذي كنتُ أنوي به شراء كتاب تاقَت له نفسي و إشتريتُ الورد، و أيضاً إستطعتُ شراء دميةٍ لطيفة لمارك.

و في ذلك اليوم عدتُ للمنزل وأنا في أوج سعادتي فقد شعرتُ بأني أفعل شيء لن أستطيع فعله ما دمتُ حياً.

فتحتُ باب شقة جوليا لأُجهِر بصوتي.
"جولي، ماركي

لقد عدت"

رأيت مارك يركض ناحيتي تاركاً التلفاز و معانقاً لقدماي
"بابا!"

دنوت وعبثتُ بشعره، و أخرجت الدمية التي خبأتها خلف ظهري لينظر لي مارك متفاجئاً.

إبتسمتُ بخفه ليأخذه و يبدأ بالقفز في الأرجاء، ظهَرت جوليا لأقف و أنا مبتسم.

"تفضلي حلوتي"
ناولتها الورد لتبتهج و تستنشق رائحته.

"نامجون لم يكن عليك شراء هذا!"

فهمتُ ما كانت تعنيه، فقد كانت تشير لتبذيري المال تحدثت بهدوء يشابه منتصف الليل.
"لقد أردتُ تقديم شيئاً بسيط لشكرك لا غير"

رفعت نفسها و إقتربت لتعانقني فإبتسمتُ و بادلتها، لنتجه بعدها لغرفة المعيشة و نستنزف ما بقي معنا من وقت.

وفي تلك الأثناء إقترب لي مارك بطريقةٍ مُفاجئة ووضع الدمية أمام وجههي و هو يُخبرني بأن أقبلها، وهذا ما فعلته لينتقل لجوليا.

"ماذا أسميته؟ "
سألته لاحقاً ليجيب بهدوء

"أسميته ديريك، كإسم الرجل من التلفاز"
تحدث وهو يمسح بكفه رأس الدمية.

إبتسمتُ بدفء لقد تحولت حياتي من وحلٍ مقرف لجنةٍ في الأرض.

لم أتخيل حياتي هكذا ولا حتى في أحلامي، لكن و كما أن لكل بداية نهاية، كان لسعادتي نقطة توقف.

فعِندما طُرق الباب و أنا أُطعم مارك، كانت تلك طرقةٌ لن أنسى وقعها، نهضتُ لأفتح الباب وفي وجههي ملامح إستنكار.

لكن عُقد لساني عندما إكتشفتُ بأن ما يقبع خلف الباب كانا رجُلان،ما يرتديانه يدُل على إنتمائهم للحكومة،سارع أحدهم و دفعني ليدْخلا بوقاحة.

"أين الطفل؟ "
هتف أحدهم لأمشي ناحية مارك وعَيناي لا تُفارقهما، خبأته خلف جسدي لأسأل
"مالذي يجري! "

بدون أن يُرهقا لسانهُما بالإجَابة أشار أحدُهما للآخر

"فالتأخذه"

بدأت بالمشي بمارك للزاوية و أنا أجهل القائم لكني أشعُر بالخطر.

"أخبرني يا هذا من أنت؟ "
صرختُ بقوة ليبدأ مارك بالبكاء خلفي.

"نحن الملجأ الحكومي! "
أجاب الرجل وهو يقترب مني ثم إسترسل

"و أتانا بلاغٌ بأن ها هنا طفلٌ يعيش في محيط غير ملائم."

صدري في علو و هبوط مستمر،همست لمارك و قد دنوت قليلاً بقربه
"عزيزي

عندما تجد الفرصة فالتهرب إلى منزل الخالة جوليا"

أومأ و هو يتشبث ببنطالي، إقترب الرجل لألكمه بسرعةٍ بدون سابق إنذار في وجهه مباشرةً.

إنتُشلت الرحمةُ من قلبي،فعِندما يتعلق الأمر بأغلى ما لدي،أصبح مُجَوفاً لا أعي شيئاً.

إتجهت للآخر و أمسكته و صرخت.
"مارك فالتذهب! "

إبتعد سريعاً ناحية الباب، لكن عاد المُلتحي لوعيه و تبعه لأفلت من كنت أثبته و ألحقه.

لكني لم يحالفني الحظ فقد أمسكني اللعين المخضرم ، بدأت بالإنهيار و مشاعري في إضطراب.

حاولت الإفلات لكن دون جدوى فقد أصبحت حبيساً،و بدون قصد ضربتُ من كان يمسكني في وجهه ليفلتني.

و فريتُ هارباً،لأرى مارك يحاول تحرير نفسه لكن لا جدوى.

ركضتُ ناحيته و إنتشلت مارك بقوة و ركلت الملتحي في قدمه ، لكننا الآن مُحاصرون، ولا مفر لنا من ما هو آت.

عانقتُ مارك و أغرقته بالقبل
"عزيزي إن أمكنك الهرب فإهرب بكل ما أوتيت من قوة"

اومأ لي و إذا بي أسمع صوت أحدهما.
"فالتمسك بهذا اللعين، و بعدها سنتولى أمر الطفل! "

نهضتُ شامخاً على قدماي، إما أن أنهي الأمر الآن و إما أن أخسر للأبد.

إنقضا علي كلاهما فسقطتُ أرضاً بسرعةٍ شديدة بعد مقاومةٍ لا فائدة منها ، بينما مارك بقي يراقبني وهو يبكي.

و جوليا من الواضح أنها لم تكن في المبنى و إلا كان مارك أمناً الآن.

بصوت مختنق صرخت في وجه مارك.
"إذهب!، أهرب! "

"بابا! "
كان هذا كل ما ينتحب به

كانت لحظةٌ مؤلمةٌ لكلانا و ما زاد الطين بله هو أني تلقيتُ ضربة جعلتني أسقط غائباً عن الوعي.

لأبقى ممدداً لفترة طويلة أما مارك فقد أُخِذ من يداي بسهولة.

و أذكر أني سمعت صوته لآخر مرةٍ يستنجد
"بابا ساعدني!، النجدة!"

لكني بحق اللعنة! لم أقوى على النهوض.

بعد مرور ساعات طويلة إستيقظتُ في مكاني ،و كان الوقت مجهولاً.

و فجأة إجتاحني حزنٌ و هَمٌ لا آخر له، و بدأت عيناي بذرف دموعٍ مالحةً، تلاها شهقاتي التي أصبحت تعلو فقد خسرتُ أعز ما أملك.

نهضت و أنا أعرج لأطرق غرفة جوليا لكنها لم تعد بعد، إتجهت لغرفتي و بدأت بقلب المكان رأساً على عقب!.

أخرجتُ كل فلسٍ من المال و جمعته جانباً, كانت خطتي تتمحور حول أني سأتبنى مارك.

إنها فرصتي و الوحيدة، إن كانو حقاً من الملجأ!.

بدأت بعدِّ ما أملكه من مالٍ كنت قد جمعته لشراء هدية الكريسماس لمارك.

لكن هذا ليس مهماً للآن،بعدما أنهيت العد إكتشفتُ بأني أملك 400 دولار.

هذا حقاً جيد، إنه مبلغٌ لا بأس به على الإطلاق، حملت المال و بدأت بالعدو للخارج لم أبالي بقدمي التي تقتلني ألماً.

عدوت وكأن لا غد بعد هذا.

لأُقابل في طريقي جوليا! .
"نامجو.. "

قاطعتها و أنا أبتعد.
"أسفٌ عزيزتي علي الذهاب! "

بدأت بالركض على الرصيف، كنت قد عرفت ملجأً قريباً من هذه المدينة لأتجه إليه، وقد أخذ هذا مني ركض نصف ساعة.

وصلت وقد جف حلقي تماماً، بقيت في مكاني أسعل بقوة لأرتاح لثاونٍ و أتنفس بعمق.

و سرعان ما دبت الطاقة في جسدي لأدخل سريعاً لذلك المبنى الكبير، و إستقبلتني إمرأة جالسة خلف طاولة.

تقدمت ناحيتها و قد كان التوتر سيداً علي
"مرحباً،أريد تبني طفلاً.

قيل لي بأنه وصل للتو"

أمعنت النظر بي، ثم أنبست وهي تزردريني.
"آه.. لا بد و أنك من قُدم فيه بلاغٌ بعدم الكفاءة"

إزدردت ريقي و يداي تتعرقان لتسترسل هي في حديثها
"أهو فتىً يُدعى ماند أو شيء من هذا القبيل"

تحدثت بسرعة.
"مارك!!أهو هنا؟!

أريد أن أتبناه،أرجوك!"

حدقت بحاسبها لتتحدث.
"أنا لن أستطيع تقديم أي موافقة لك حتى تُحسن حالك و تُثبت بأنك تستطيع الصرف عليه!"

أمسكت برأسي و أنا أزفر الهواء و أكاد أسقط منهاراً أكاد أفقد مارك للأبد!.

"كيف أضمن بأنه لن يتم تبنيه من شخص آخر حتى عودتي؟ "

"أنت لا تستطيع! "

صمتت قليلاً ثم أنبست
"أرجوك، فالتحفظيه لي

في غضون أسبوع سأكون هنا و آتيك بكل الإثباتات التي تؤكد بأني أصلح للتبني! "

"أنا آسفه، لا أستطيع! "

إمتلأت عيناي بالدموع و بسبب التوتر، بدأت بالمشي هنا و هناك لأعود لطاولتها مندفعاً.

"أرجوك! إنه كل ما أملك، أسبوعٌ واحد فقط

أتوسل إليك،إنه كل ما أملك في هذه الدنيا البائسه! "

نظرت لي لتزفر بخفه
"أسبوعٌ واحد،أسبوعٌ واحد يا سيد؟؟"

"نامجون"
أجبتها و أنا مبتهج.

"سأكذب على المتبنين و أخبرهم بأن الطفل قد ذهب بالفعل،ولكنك تملك أسبوعاً واحداً

عليك فيه تجهيز منزلٍ جديدٍ و مُلائم،ملابس مناسبة له،و الطعام بالطبع!

و ستُعفى من المبلغ الذي تدفعه مقدماً بحكم انك الراعي السابق للفتى."

"حسناً،أشكرك من أعماق قلبي إنني أدين لك بالكثير.

ثم إن لدي سؤالاً بسيطاً،أيمكنني رؤيته الآن؟"

رمقتني لتتحدث بنفس لكنة صوتها القاسية.
"أجل"

بدأ الأمل يلوح لي و السعادة أشلت أحاسيسي،طلبتُ رؤيته لتأخذني نفس السيدة،لمكان كان اشبه بالمنزل الدافئ و كان هناك الكثيير من الأطفال اللذين يلعبون هنا وهناك..

و بينما أنا أبحث بعيناي، تفاجأتُ بصوت مارك
"بابا!"

شعرت بعدها بجسد ضئيل يعانق ساقي لأدنو إليه،و تنزلق دموعي متمردةً.

"صغيري"

أخذته في عناق طويل،ثم شعرتُ به يبكي في حضني.
"لن تبقى طويلاً هنا،أعدك."

"أرجوك بابا أخرجني من هنا!لا أريد البقاء هنا لوحدي!"

قطبت حاجباي و قبلت جبينه
"أريدك أن تثق تماماً بأني سأعود لأخذك،ربما غداً و ربما بعد غد أو بعده

لكن لا تفقد الأمل في بابا حسناً؟"

إقترب و قبلني.
"بابا أخرجني من هنا لا أريد البقاء"

صمتت لفراغ بحر الأقوايل مني،و بقيت أتعذب و أنا أنصت لنحيبه،مسدت بخفةٍ على شعره بينما هو يبكي.

لأسمع صوت الإمرأة وهي تُعزي مارك بكل حب،لربما هي أشفقت علينا،أنا لا ألومها.

"هيا عزيزي يجب أن أذهب!"

"بابا!"
بقي يستنجد بي و أنا أبتعد أكاد أركض لكي لا أنهار بكاءً.

هربت خارج المبني لأطلق العنان لعيناي فيبدأ سيل الدموع!.

بدأت بالمشي بهدوء مدلٍ برأسي و دموعي قد غسلت الرصيف، شهقاتي أصبحت تهرب و كل ما أعرفه هو أن الليل أصبح في آخره لهدوء الشوارع.

تعبت من المشي فألقيت بجسدي على الأرض و غطيتُ وجهي و بدأت بالبكاء بصمت، فأنا حر الآن ولا أحد هنا لرؤيتي و الإشفاق علي.


بقيت طويلاً أفكر بهدوء و الدموع لم تعد تزعجني،فكرت بما يجب علي فعله.

سأجد منزلاً،و آمل بأن أجد منزلاً في نفس المبنى الذي أسكن به، و أشتري كمَّاً من الملابس، بالإضافة للطعام.

أخرجت المال من جيبي، إنها فقط 400 دولار لن أستطيع فعل هذا!.

بدأت الخيبة تحيط بي، و الإكتئاب عقدني بحباله الثقيلة.

نهضتُ بهدوء و أنا أفكر بإستلاف المال من مالك المبنى و أتمنى أن يوافق.

و فكرت بالمبلغ الذي سأقوم بإستلافه
"سأستلف منه ألفين! "

لقد كان قراراً صعباً،ولم أكن أعلم حينها كيف يتوجب علي إعادتها لكن كل ما يهمني الآن هو مارك.

عدت للمنزل لألقي نظرةً على باب منزلي الذي فُتح جزء منه، تقدمتُ و دخلت و أنا منهك و أغلقتُ الباب خلفي.

و إرتميت على السرير و بقيت أُجهش بالبكاء، كان يومي مُتعباً و مرهقاً.

طُرق الباب بخفه لأتجاهله فأسمع صوت جوليا الهادئ.
"نامجون؟ "

نهضتُ سريعاً و مسحتُ وجهي بكم قميصي، وقفت أمام الباب، لم أكن أريدها أن ترى منزلي المثير للشفقة.

"مالذي يجري؟ "
سألتني و كنت ألتمس القلق في صوتها.

"لقد أتى الملجأ

و أخذ مارك مني! "

سمعتُ شهقتي و تحاشيت عن النظر لها خوفاً من أن ترى ضعفي المستتر.

مدت يدها لتُلامس يدي و سحبتني للخارج بهدوء.
"مالذي تنوي فعله؟ "
سألت وهي تمشي بي بهدوء ناحية شقتها.

"لقد إتفقتُ مع إحدى المسؤولات هناك بأن تحفظ لي بمارك لمدة أسبوع.

وخلال هذا علي جلب إثباتات بخصوص أني حصلتُ على منزلٍ و مأكل و ملبس."

صمتت قليلاً، لتتحدث بصوت تسلل لصميم قلبي و قبله برقة.
"يمكنني تحويل إسم شقتي لأسمك، و بإمكانك أخذ الورقة التي تثبت من المالك.

و أما بخصوص المأكل فهناك الكثير مم الطعام بداخل المنزل.

و لا يتبقى لنا إلا شراء الملابس و لنضمن عدم إختلاقهم لأسباب أخرى لرفضك.

لنشتري بعض اللعب"

لم أجبها، و لم أنطق بكلمة واحدة، بل إزدرأتُ نفسي و تكدست الدموع تخنقني.

توقفنا عند شقتها لتفتح الباب بينما دموعي تتسابق على خدي، فحتى المنزل لن أكون قادراً على الحصول عليه.

إلتفتت ناحيتي فإقتربت تحاول تحسين مزاجي المضطرب.
"نامجون عزيزي"

سحبتني للداخل و أغلقت الباب لتمسك بكلتا يداي
"ما بك؟

لقد حللنا الأمر! "

"أنت من حل الأمر لا أنا

أنا لا أصلح لرعاية مارك! "
تمتمت بهدوء و عيناي قد أُرهقت.

"إنني أساعدك لا غير،و بعيداً عن هذا.

أنا لن أستطيع العيش بدونه، لذا لن أسمح بأخذه بعيداً"

مسحتُ عيناي بلطفٍ لأشعر بها تعانقني، و همست بهدوء بقربي.
"و أنت لن تحتفظ بالشقة بأسمك للأبد"

قهقهت متفاجئاً بينما هي كانت تضحك بقربي، لقد علمَت كيف تجعل للإبتسامة طريقاً لشفتاي.

و بعدما هدأنا إبتعدت و أحاطت وجهي بيديها و بدأت تداعب خداي بإبهامها.
"سنستطيع إرجاعه سوياً

لا تفقد الأمل"

تنهدت بعمق كرد و أنا أثق تماماً بأن هذا لن يتم على خير.

أبقتني جوليا للمبيت عندها، و خجلت من النوم معها في غرفتها لأنام على الأريكة خارجاً.

و لن أخفي بأني بقيت الليل أبكي بصمت و هدوء حسرةً على صغيري.

نهضت في اليوم التالي و أتجهت للعمل بينما جوليا تولت تغيير إسم مالك الشقة.

و خرجت مبكراً اليوم لأستطيع المرور بالمتجر الخاص بالملابس وسط المدينة و إبتعت الكثير من الملابس، و اللعب.

و كفتني النقود فإشتريتُ بعض الحلويات في طريقي.

كنت ممتلئاً بالأمل،و كنت واثقاً بأنه لن يمر الكثير من الوقت حتى يعود مارك لأحضاني.

عدت لمنزل جوليا سعيد،و ساعدتها في ترتيب الأغراض.

لكني تذكرت، إذا أتو للتأكد من المنزل بالطبع سيسألون عن غرفة نوم مارك.

نظرت لجوليا وقد توقفت عن الحركة ثم أنبست بصوت منخفض.
"إذا أتو

هل تتوقعين بأنهم سيسألون عن غرفة مارك؟! "

توقفت هي الأخرى و قطبت حاجباها،ثم تحدثت.
"أضن بأني لست بحاجةٍ لغرفة المخزن.

لذا لنُفرغة و نضع هناك سريراً و خزانة.

تمتمت بخجل
"أستمانعين هذا؟ "

"نامجون توقف عن الخجل بخصوص هذا الأمر

سأسَر بتفريغ غرفة لأجل مارك"

أخذتُ نفساً طويلاً
"حلما ننهي هذا ستعود الأمور لمجراها"
تحدثت لأحافظ على القليل من كبريائي.

مر  يومان و نحنُ نُعدل في تلك الغرفة، و قد بقيت في العمل ليومين كاملين لآخذ علاوةً و أستطيع شراء الحاجيات.

و بهذا إكتملت خمسة أيام و صغيري محبوسٌ في ذلك السجن.

أنهينا كل شيء في تمام الرابعة عصراً لأحدق بجوليا، و هي بادلتني النظرات.

بقينا على هذا الحال لأقترب منها بهدوء و أعانقها بقوة. "لن أنسى جميلك ما حييت عزيزتي

أنا مدين لكي بحياتي كاملة".

شعرت بها تدفن رأسها في صدري
"كل ما أطلبه هو أن تكف عن الخجل نامجون"

إبتسمت إبتسامةً ميتة لإرهاقي الشديد و ذهبت لتبديل ملابسي و عدت لجوليا و سألتها.
"أنا ذاهب لأخذ مارك، أتملكين العقد؟ "

أجابت بالموافقة
"حسناً إذاً هيا لنذهب"

ذهبنا سوياً و كنت سعيداً جداً،فقد فتحت لي الدنيا أبوابها و إستقبلتني.

وصلنا أخيراً بعدما إستقلينا الباص لأدخل لهناك لتبتسم المرأة حينما رأتني.

تقدمت ناحيتها
"مرحباً"

ناولتها ورقة الإثبات و بدأت بقراءتها، بينما جوليا كانت ممسكةً بيدي و تشد عليهما لتتحدث.
"جيد!

الآن أريدك أن توقع على هذه الأوراق، و في غضون دقائق ستأخذ مارك و سيرافقك شخص للتأكد من باقي الأساسيات!"

تناولت القلم و بدون قراءة شيء وقعت بينما هي نهضت و إتجهت للداخل، و سرعان ما أنهيت الأوراق لأستقيم و أتلقى عناقاً دافئاً من جوليا.

"و أخيراً"
تحدثت لأقبل رأسها.

عادت المرأة و تبعها أحد الرجال الذي قد تعاركت معهم مسبقاً، و أخيراً كان مارك.

ركض ناحيتي بينما إستقبلتها بذراعين مفتوحتين
"إشتقت لك"
تمتمت وخدي يلامس شعره.

لم يجبني بل بقي صامتاً لأرفعه، و أنظر للمرأة.
"شكراً جزيلاً سيدتي"

حولت نظري للرجل.
"هلَّا ذهبنا؟ "

و بدأنا بالسير عائدين للمنزل و مارك يحكي لي عن معاناته هناك، كم إشتقت لصوته و جسده الضئيل الصغير.

كم إشتقت لإطعامه و اللعب معه و الإعتناء به، لقد كان ولازال مكافأةً من السماء.

و مهما شكرت لن أستطيع بذل السعادة التي قدمها لي هذا الملاك الصغير.

و صلنا للمنزل و تأكد الرجل من كل الإحتياجات ليعود سريعاً و أتجه للأويكة فأريح جسدي.

غطيتُ عيناي بساعدي و أخذت نفساً طويلاً حمل كل ما آلمني.

ليقترب لي مارك و يقبل خذي
"بابا لا تبكي! "

أزال ذراعي لأبتسم و أخذه في حضن و أضعه على ظهره و أبدأ بمداعبته ليرتفع صوت قهقهاته.

ثم ظهرت جوليا من العدم و ألقت بكم من اللعب و دعت مارك للعب ليذهب.

بينما هي جلست بقربي و لم أمتنع عن إحاطه جسدها بذراعي.

قطبت حاجباي.
"أخيراً ها هو آمنٌ بين يداي"

نظرت لي لتبتسم فيظهر صف أسنانها اللؤلؤي، رفعت جسدها و طبعت قبلة هادئة على خدي، لتبتعد و تأخذ مكانها في حضني.

_______________

© شهْد ,
книга «struggle كفاح».
Коментарі
Упорядкувати
  • За популярністю
  • Спочатку нові
  • По порядку
Показати всі коментарі (2)
Baby
كِفاح
_بكاء_ هيهيهيهي 😭❤ معرف عن ايش اتكلم السرد ولا القصة ولا المشاعر لمنبثقة منها ، ولا عن روعة الكتابة 💕✔ ....
Відповісти
2018-08-20 12:30:39
Подобається
Baby
كِفاح
ابدعتي بكل ما تعنيه لكلمة من معنى ❤✨
Відповісти
2018-08-20 12:31:09
Подобається