شتات قلب.
شتات قلب.
تفحصها بين الفينة و الأخرى، أختلس نظرة خاطفة على ملامح وجهها الهادئة و هي تتفحص كتابها، أراقب تعابير وجهها وهي تتابع الأسطر بشغف، مرة الحيرة و مرة الحزن و في معظم الوقت تضع تلك الملامح الهادئة من جديد، ترفع شعرها وراء أذنها بحركة خفيفة سريعة و تكمل مسيرتها في عالم اللاوعي مرة أخرى، أحيانًا ترفع عيناها لتتفحص ما حولها بنظرة خاطفة، و في كل مرة تفعل ذلك أعود لمطالعة كتابي محاولًا كبت أي تعبير قد يفضح حال قلبي، لكن في المرة التي رفعت عيناي عن كتابي وجدتها تحدق بي، إرتبكت، لم أعرف كيف أتصرف، لكنني أرجعت عيناي للكتاب بسرعة و تظاهرت بالجديّة، لكن بالرغم من ذلك فإنني إسترقت نظرة خاطفة أُخرى لأجدها تنظر لكتابها و تبتسم إبتسامة عريضة، أحسست بدقات قلبي تتسارع، أتنفس بضيق، و لوهلة أحسست بأنني إنعزلت عن العالم تمامًا، و لوهلة أحسست بأنني أسعد شخص قد خطى على أديم الأرض، لكن بالرغم من ذلك حاولت إخفاء كل مشاعري برسم وجه خالٍ من التعابير بالرغم من الإحمرار الذي طغى على وجنتاي، بقيت مركزًا على صفحات كتابي لأبعد كل الشبهات عني، و بقيت أنتظر و أنتظر لا أجرأ على رفع رأسي، فالحرج و الحياء قد أفتكا بي، سمعت صوت كرسي يتحرك و لمحت ظلها يتحرك فأدركت أنها همت بالخروج، لم أنظر لها فقد تمالكت كل رغبة جامحة فيّ للنظر لوجهها، كل شبر مني يخبرني بأن أفعل المعتاد فأنا سأشتاق إليها و لن أرها حتى بعد ثلاث أيام على الأرجح، لكن كبريائي يمنعني و بشدة، لذلك لم أحرك متحرك، سمعتها تتكلم مع وصيفة المكتبة و تقهقه بإستيحاء، وأغلقت عيناي محاولًا إرهاف السمع، كانت تتكلم بسلاسة و بهدوء، صوتها كالملاك تمامًا، بقيتا تثرثران برهة من الزمن ثم و بخطوات ثابتة متزنة خرجت و قد تركت المكتبة ليحل عليها ذلك الملل المعتاد.

تنهدت بضيق، أحاول في كل مرة إستجماع رباطة جأشي لتنبس شفتاي لها بمرحبًا فقط و لكني لا أقوى، لم أستطع مفاتحتها بالحديث و لو لمرة، لأنني أدرك أنّه بأول جملة ينسجها لساني ستكون عوجاء بلا معنى، و أخاف أن أخسر فرصتي الوحيدة بسبب هذا الإعوجاج، لم أملك الجرأة يومًا للمرور بجانبها، أخاف أن أفقد كل رجاحة يملكها عقلي بسبب عطرها الأخاذ، فأنا الضعيف أمام جميع أبعادها، و أنا متراخي الدفاع أمامها، و أنا الذي أذبل و أزداد شبابًا كل يوم بسببها.

و قد إكتسبتُ عادة الجلوس في المكتبة كل يوم مساءًا بسببها، و إكتسبت نهم الصفحات منها، و اكتسبت داء العكوف على الكتب منها، و اكتسبت التوتر و قلة الحيلة بسببها، لم أكن يومًا الشخص الذي أنا عليه اليوم، كنت ذاك شديد الرأي جريء المعاملة حلو اللسان مقدام على الدنيا، و لم أصادف يومًا ما يعرقل بيني و بين شخص آخر مهما كان، و لكن هي... هي حالة نادرة خاصة، هي التي سقطت أمامها كل قلاع تسلطي و جرأتي، و هي التي لم تشفق على قلب اشتعل عشقًا، و لم ترفق بقلب أسرته و جعلته خاضعًا لها بإبتسامة فقط و جعلتني هائم لها دون أن ترأف بي قط.

مرّت حوالي نصف ساعة منذ أن غادرت، حاولت في كل دقيقة منها أن أركز على كتابي لكنني لم أستطع، فما زلت في ذات الصفحة التي تركتني فيها، فقلبي يدفعني و يحثني للحاق بها و خوض حديث معها حتى و لو لم أكن أدري حتى عن ماذا سأتحدث، و عقلي يأمرني بالتعقل و الروية و الإتزان، ببساطة حرب قائمة في داخلي.

أغلقت الكتاب عندما إستسلمت و غادرت المكتبة مودعًا الوصيفة ببضع كلمات لطيفة، و منذ خروجي لحد باب منزلي و أنا أفكر كيف لحياتها يمكن أن تكون، ما اسمها؟ أراهن أنّه سيكون لطيفًا و يليق بها تمامًا، هل تدرس؟ و في أي جامعة؟ هل هناك شخص آخر في حياتها؟ توقفت لوهلة و قد أحسست بضيق في صدري و سرى الخوف في كامل جسدي، مجرد التفكير في أنّ جواب هذا السؤال سيكون نعم يبعث فيّ مشاعر الإستياء و الإحباط أو هل هي الغيرة...؟ و تشعبت داخلي أحاسيس عدة غير محبذة، و طغى علي لإكتئاب وقتها، لا يمكني تحمل رؤيتها تبتسم لشخص غريب عنها فكيف بشخص بهذا القرب؟ أقنعت نفسي الثائرة بأن الجواب لا و أكملت مسيري إلى منزلي الذي يحتفي بالتعاسة المعتادة.

و مرت أيام طوال لم تسنح لي الفرصة فيها أن أراها بسبب مرض والدي المفاجئ، فليس لديه شخص آخر للوقوف بجانبه سواي، فلذة كبده و سنده الوحيد في هاته الدنيا خاصة بعد أن ودعتنا والدتي فجأة بسبب إرهاب الطرقات، لست منزعجًا لحد كبير، فبالرغم من الشوق الذي فتك بكل شبر مني و الحنين الذي أسكر قلبي و جعله مخدر لا يفقه في التصرف شيئًا، لكنني و بالرغم من ذلك فضلت البقاء بجانب والدي، فبالرغم من أن علة الحب قاتلة إلا أنني بالإمكان تحملها و التغلب عليها، و صحيح أنّ في الأيام التي كنت فيها أرعى والدي من علته التي لا أشك في أنّها ستصل للعدوى التي أصابتني، لم يفارق خيالها ذهني لحظة، و بالرغم من أني أحاول أن أجعلها تتنحى من ذهني إلا أنّها و في كل مرة تكون حاضرة تعاند أفكاري حتى تجعلني أنفصل على العالم بأسره.

بقيت على هذا الحال أداوي قلبي بتراييق لا فائدة منها، و في اللحظة التي أخبرني فيها أبتي أنه قد تعافى من نكسته و أنّ لي كامل الحرية في التصرف في حياتي دون أن أحمل عبءه على عاتقي، لم أجد سوى ساقاي تقودانني إلى تلك المكتبة العتيقة لا إراديّا، و في كل مرة أقترب تزداد دقات قلبي و يزداد حماسي لعلي أجدها هناك، و بمجرد أن دخلت توجه نظري لمكان جلوسها المعتاد لكنّها لم تكن هناك، فأخذت أجوب بنظري متفحصًا المكان و متمسكًا ببصيص أمل خافت علي أراها، لكن عطرها لم يكن حاضرًا كالمعتاد، أخذت كتابًا و توجهت لطاولتي المعتادة، أقرأ أسطر و نظري معلق على المدخل علّ ضياءها يشرق في أي لحظة لكن أملي خاب فعلًا ذاك اليوم، فقد إتخذت من الصبر أنيسي و الإنتظار خليلي، لكنهما خاناني كخيانة بروتوس لقيصر، فما كان مني سوى أن جريت أذيال الخيبة ورائي متوجهًا للامكان في هذه المدينة التي بدت لي معتمة بغيابها لعلي ألمحها، و ها أنا هنا ما زلت متمسك بالآمال الخائبة مرةً أخرى.

صحيح أنّ الخيبة مؤلمة و ثقيلة على القلب لكن هذه الخيبة كانت الأثقل، أن تتطلع لشخصٍ تستيقظ كل يوم لأجله و تحارب من أجله لكن لا تجد ما تتطلع إليه لأمر يسبب الضيق و الثقل الذي لا يمكن أن ينزعه سوى ذاك الشخص بالذات، و لا يمكن لسواه أن يزيل بحضوره الطيب تلك الكآبة المستعصية، و هي... تستطيع أن تحوّل مزاجي من الجيد إلى السيء إلى الأسوء في لحظات، قبل ساعات كنت مهموم بكثرة التفكير بها، و قبل دقائق كانت السعادة تحتفي بي و الآن ها أنا أحارب الكآبة باستحضار الذكريات الجميلة الممكنة، لا تُرفق بي أبدًا، و أشك أصلًا أنني أمر بخاطرها، و لا أظن أنّها تأبه لأمري بالكامل لكن ما يجعلني أتشبث بحبها كالأحمق هو الإبتسامات التي ترسلها لي من حين إلى آخر عندما نجلس متقابلين في المكتبة.

لكنني و بالرغم من ذلك عقدت عزمًا بيني و بين نفسي أن أتواجد هناك كل يوم حتى أراها، و وعدت الدهر أن أحادثها و أتغنى بصوتها و لو لثواني لعلها تكون الفاصلة بيني و بين الشك الذي ينتابني في كل لحظة، و ليكن ما يكن فما عدت أتحمل و ما عدت أقدر أن أصحو و أمسي على العذاب كل يوم، و ليتنهي هذا الأمر إذا أراد القدر أن ينتهي، و ليستمر إن رغب، و لكن بالرغم من مصارحتي لنفسي بهذه الحقائق المرعبة إلّا أنّني عميقًا في نفسي أصلي كل لحظة أن لا يتحقق الأسوء و يحيل الأمر بيني و بينها وينتهي بي المطاف بعلب سجائر عدة ملقاة حولي و رائحة التبغ تطغى على ملابسي.

و مرت الليالي و الأيام و أنا على نفس الحال، أذهب لذاك المكان أستشيط حماس و شعلة السرور ملتهبة داخلي و أعود بها خامدة منطفأة و الجرح في صدري يزداد يومًا بعد يوم، لكنني إستجمعت رباطة جأشي فذاك اليوم سألت الوصيفة عنها و قد ردّت بكلمات قليلة ثقيلة على النفس "تلك المسكينة، لقد سمعت أنها تقبع في المشفى تلفض آخر أنفاسها بين أروقته المظلمة" و أكملت عملها ببرود و كأنّ شيئًا لم يحدث.

الخبر نزل عليّ كطعنة سكين، و تجرعته كالسم القاتل، و لوهلة إنعزلت عن العالم متخيلًا كيف سأعيش بدونها، و كيف أن الحياة ستغدو مرّة بغيابها، و من سيعطر الأنحاء بإبتسامته، و من سيجعلني أحس و كأن العالم بأسره و بما يتخبط فيه من حروب و فساد أنّه لا يزال بخير و على ما يرام؟ الفكرة وحدها عندما تمر بمخيلتي تجعل مني لا أحس بجسدي من الذعر و تجعل مني كالمجنون خائر القوى قليل الحيلة لا يسعني فعل شيء... سوى الصلاة لها؟

وجدت نفسي كالمعتوه أجري في الأزقة بكل ما أوتيت من قوة، متجهًا نحو مشفى المدينة بأقصى ما لدي، أفكار شتى تتوافد على عقلي، أحدها أنّها في أي لحظة يمكن أن تودع العالم وداع أبدي دون أن أخبرها بما تستحق، أن ترحل دون أن أخبرها كم أحببتها، أن تفارقنا دون أن أعترف لها بكم هي مميزة، و في كل مرة تخاطرني هذه الفكرة أزيد من سرعتي أكثر.

وصلت هناك و قد أصبحت أدفع الممرضين الذين يتطاولون في مشيهم في الأروقة و كأنّه لا يوجد مرضى يتألمون، يضحكون بأعلى صوت مما زاد من غضبي حدة و إزداد حنقي، و لست متأكد أنني دفعت حتى المرضى، لم أكن أفكر بطريقة سليمة حينها، ليس بعد أن تسلطت عليّ مجموعة من المشاعر المختلطة و أصبحت تدور داخلي كالدوامة، وصلت لمكتب الإستقبال أخيرًا و وقفت هناك أسترد أنفاسي و أجمع شتاتي.

"كيف يمكنني مساعدتك سيدي؟"، سألت الممرضة المسؤولة عن المكتب بصوت وديع.

و بمجرد أن فتحت فمي لأجيبها تيقنت أنني بالكاد أعرف عنها شيئًا، فما كان مني سوى أن أجيبها "لقد أتيت من أجل زيارة مريض".

"هل يمكنك إعطائي إسمه أو إسمها؟".

"في الحقيقة لا أدري؟" قلت و قد قبضت على صدري بيدي اليُمنى و مازالت أنفاسي تتقطع.

أمّا هي فقد بقيت تحدق بي لبرهة و أردفت بعدها "ما سبب دخوله للمشفى؟",

"لا أدري" أجبتها بنبرة غاضبة، لكنني أدري أنّ هذا ما هو سوى رد فعل دفاعي للخوف التي تأصل داخلي.

و أضفت "لا أعرف إسمها و لا أدري لما هي هنا، كل ما أعرفه أنّ حالتها خطيرة، أرجوكِ لست مجنون إن تعتقدين ذلك، يمكنني وصفها لك".

فبقيت هي تحدق بي بنظرات تشوبها الشكوك و قالت "تفضل".

فأعطيتها وصفًا كاملًا دقيق، نعم دقيق، فعندما تقع في حب شخص ما فأنت ستهتم لكل تفاصيله الصغيرة التي لا يهتم لها حتى هو، و ستنتبه لكل صغيرة يقوم بها و حتى لتصرفاته و طريقة كلامه، حتى إنك ستأخذ من تصرفاته هذه و تضمها لخاصتك، و تصبح لا شعوريّا تتصرف مثله، و كأنك تحاول نسخه، فقط حبًا منك له.

"أظن أنني أعرفها، إتبعني" و نهضت عن كرسييها و مشت بخطوات سريعة و رشيقة و تبعتها أنا كالمسكين الذي خائر القوى الذي لا يفقه ما يفعله، و قالت لي بصوت منخفض "إن كنت تعني إيلين فهي مصابة بالتليّف الكبدي في آخر مراحله، نحن لا ندري إن كانت ستنجو أم لا، وضعها خطير جدًا، و قد تتسائل كيف أعرفها، هي دائمة التردد على المشفى من أجل أخذ الحقن المغذية و الأمصال" و توقفت أما أحد الأبواب و أضافت "حاول أن لا ترهقها سيدي، و أيضًا ما زالت حوالي نصف ساعة و تنتهي فترة الزيارة" و فتحت الباب لي لأدخل.

لكن ساقاي خانتاني الآن، لا أتحمل رؤيتها في أضعف لحظاتها، لقد تعودت على بشاشتها و بريقها الدائم فكيف لقلبي أن لا ينكسر أشلاء بذبولها و إنطفائها، لكنني تقدمت بتثاقل إلى أن وصلت إليها، جلست على الكرسي الذي بجانبها و كل جزء مني يرتجف، حاولت لمس يدها التي إزرقت بسبب الحقن المتعددة لكنني لم أقدر، فما كان مني سوى أن دفنت وجهي بين كفاي و لأول مرة منذ دهر بكيت، و بالرغم من كبريائي الشامخ بكيت، و بالرغم من نرجسيتي أحسست في تلك اللحظة أنني ضعيف و أني أحتاج حضورها الدائم، و أنني لا يمكنني أن أعيش في الفراغ وحدي بدونها.

إستجمعت ما أقدر عليه من شجاعة و مددت يدي مرة أخرى لكنني لم أقوى على لمس يدها مرّة أخرى، لكن ليس ضعفًا هذه المرة، و إنّما بسبب صوت داخلي همس لي "لا تلوثها"، لم أرد أن أضع يدي على كفها فلو كانت مستيقظة لما أرادت أو لأنني ببساطة أخاف أن أدمن عبقها الآخاذ فأتعذب أكثر بعد رحيلها، فما كان مني سوى أن أضع يدي بجانب خاصتها و بأعين ذابلة راقبتها، كل ذرة نشاط فيها قد تبخرت، و كل بريق جمال فيها قد إنطفئ، لكن و بالرغم من ذلك ما زلت أراها بكامل جمالها، هذا لأنني رأيت جمال قلبها قبل خارجها، و تحسست جوهرها من تصرفاتها العفوية و نظرت لأخلاقها و مبادئها قبل أن أنظر لوجهها، نعم لقد وقعت في حب المعنويات أكثر من الماديات، و هذا ما يجعل الأمر عسير على روحي، فهي لا يمكن التخلص من وجودها داخلي بسهولة، سيكلفني الأمر الدهر لأنسى فقط رائحة عطرها فكيف سأنسى باقي التفاصيل إذًا؟ و سيكلفني الأمر عمرًا كاملًا لتُمحى واحدة من أبسط الذكريات لها، فكيف سيتسنى لي نسيان سنة كاملة من العذاب؟ و كيف لي أن أنسى ربيع الإعجاب و صيف الحب و خريف الحنين و شتاء العذاب و الإشتياق، و أشك في أنني سأفني باقي عمري في شتاء أبدي أخروي.

"إذًا اسمك إيلين، يُأسر مثلك"، بنبرة حزينة أنسجت هذه الكلمات القليلة في حضرتها، و أضفت "أتمنى لو أننا لم نلتقي في مثل هذا الموقف" و أمسكت عن الكلام لوهلة عندما أحسست بها تمسك بيدي و تضغط عليها بضُعف، فما كان علي سوى أن أضغط على يدها بخفة و كأنني أخبرها بأنني بجانبها و لن أتركها أبدًا، و همَسَت بصوت به بحة ضعيف "لقد أتيت"، و أنسالت دموعها الحارة على وجنتيها و قد كتمت صوت شهقاتها المتألمة و أضافت بصوت متقطع "آسفة".

" متأسفة لماذا؟" أردفتُ بانفعال.

"لأنني سأغادر في أي لحظة".

"ليس و كأنني سأتركك وحدك" قلتُ و قد قربتُ يدها من شفتاي و قبلتها بخفة.

"الأمر صعب أن تتعايش مع واقع مرير، أن تعلم أنك نصف ميت لكنك ستصير ميت قريبًا".

"ليس و كأنني سأعيش بعدها".

"الموت يقترب في كل مرة و اليوم هو يقبع عند بابي يناظرني بأعين فارغة".

"ليس و كأنك ستستسلمين له".

"حاربت طوال حياتي، و في كل مرة كنت أربح المعركة، لكن هذا لا يعني أنني سأربح الحرب".

بقيت أحدق بها و ببريق عيناها الذي يأشر بالحزن و قلة الحيلة، و في كل مرة أنظر لوجهها يزداد جرح قلبي بالتوسع، كيف يمكن للشخص الذي عهدته مشرقًا ينبوعًا صافً أن يصبح بمثل هذا التعكر، و كيف لهذه الصفوة أن تختفي و يحل مكانها فوضى متدفقة من أحاسيس الخوف و الذعر و الكآبة و الحزن الطاغي.

تنهدتْ بصعوبة و أضافتْ "ما الذي أتى بك هنا؟".

(لأنني متيم بكِ)

"ألا يُوَفي قارئ واجبه تجاه قارئ آخر؟"

"من أخبرك؟".

"وصيفة المكتبة".

أغمضتْ عينيها و أضافتْ "بالفعل اشتقت للعودة هناك".

(وأنا اشتقت أن أتأمل تعابيرك مع كل سطر من كتابك).

"سوف تعودين، فقط تحلي بالصبر".

"و إن لم أفعل؟".

"ستفعلين أثق بك".

أغمضت عيناي و قبلتُ يدها مرة أخرى و قلبي يشتعل يأمرني بأن أصفح لها عن كل دمار تسببته في داخلي، و كل ما رمّمته بداخلي، و كل ما حولته لرماد و كل ما بعثت فيه حياة.

تنهدت مرة أخرى و قالت "إذًا ما اسمك؟"

"إيفان". أجبتها و لهيب قلبي يزداد في كل لحظة.

"أتمنى أن تأتي لزيارتي أكثر سيد إيفان، الوحدة مزعجة".

(سأبقى بجنبك حتى يواري أحدنا القبر و لو كنتِ أول واحدة فسأفني عمري متكأ على ضريحك أحكي لرفاتك تفاصيل يومي البائسة، و سأوصي الناس بأن يُدفن جسدي بجانبك و يكتبوا على قبري "هنا رفات عليل الحب").

"بالطبع سآتي كل يوم".

فابتسمت هي ابتسامة باردة كبرود ديسمبر و أضافت هامسة بنبرة ضعيفة "أشكرك".

و مرت تلك الليالي و الأيام العاصفة و القاسية لكنّها لن تكون بمثل قساوة عواصف فؤادي، أموت في اليوم ألف مرة و أحيا مرة واحدة عندما أراها، لكن ما يجعلني متمسكًا بخيط الواقع الرفيع إشراقها الذي يزداد يومًا بعد يوم، و بالرغم من أننا في ديسمبر إلّا أنها كانت زهرة في عز نيسان، و كنا نتحدث لساعات، ساعات طوال من الأحاديث العميقة و المؤسرة، و كانت مهتمة بالفن و الأدب و الرسم، ما يجعلها تتحمل كآبة العالم و قساوته، و كنا نتكلم في السياسة و الإجتماع و الفلسفة و لم يكن ظاهرًا أن أي من أحاديثنا هذه سينتهي، بل و عميقًا في داخلي كنت أتمنى أن تتحول هاته الساعات لأعوام، فما ضجرت من صحبتها و لا مللت من كلماتها، كانت مؤنسة لحد كبير، للحد الذي جعلتُ من كلماتها كخمر لي و في كل جلسة أصبح مخمورًا بندى و عبق أفكارها، و أدمنت خمرها و أصبحت سكيرًا بسببها، و في كل هاته الأيام لم أجرء على الإعتراف و لو مرة، حتى و إن كان الأمر جليّا لكنني لم أفعل، لا أدري أخوْفٌ من واقع مر أن تهجرني سواء أبديّا و هو الموت أم حياتيّا؟

لكن ذاك اليوم لك يكن كسائر سابقاته، يوم أتيت للمشفى حاملًا بيدي أزهار توليب بيضاء قد عكفت على إختيار الأفضل منها، عندما وصلت ووجدت الأطباء يتهافتون على غرفتها الواحد تلو الآخر و عندما رأيت والدتها و شقيقتها هناك يبكيان بحرقة، علمت أنّ أسوء كوابيسي سيصبح واقعًا و سأرتشفه ببطئ حتى أتمنى الموت بنفسي، اندفعت بقوة إلى غرفتها لكن الممرضين إستوقفوني مرغمًا و في كل مرة أحاول الدخول أفشل، ناديت باسمها فلم تجب، ناديت مائة مرة لكنها لم تجب، حتى بح صوتي، لكن عندما طفح كيلي و اشتعل اللهيب داخلي حاولت بأقصى ما لدي حتى دخلت عندها و بالرغم من أن كل ممرض يمسك بطرفي لكنني نجحت، فوجدتها هناك تلفظ آخر أنفاسها و لم يكن مني سوى أن أحتضنتها بقوة دون أن آبه بأي من الحاضرين، بكيت و بكيت حتى إبتل كتفها من دموعي و بقيت متمسكًا بها كما لو كانت هي الحياة بأسرها، و ناديت باسمها و صليت و تمنيت لو يأخذني الموت معها أيضًا فما أظن أن هناك ما يستحق للعيش بعدها.

"أحبك حبًا أبديًا" همست لها بنبرة باكية حزينة، "أحبك كما لم يحب أحد من قبل، أحبك بقدر ما أتمنى أن يقبضني الموت قبلكِ، أحببتكِ و أحبك و سأظل أحبك لما بقي من أيام عمري". و نظرت لها لكن لا يبدو أنّها تستجيب، فالمرض العضال قد أفتك بها، و أنهكها للحد الذي لا نهوض بعده، و أجهدها لدرجة أنّه جعلها تنفصل عن هذا العالم بأسره، ما زاد فوق حزني حزنًا، و ما أضاف لندمي أضعافًا، لو صارحتها من قبل لكان الأحسن لكلينا، جُبني جعل الأمر يتحول من السيء للأسوء فحسب، و ما كنت أختال نفسي جبانا قط، لكن خوفي جعل مني فأرًا لا غير.

أحاول إيقاظها تارةً و أصرخ على الأطباء تارةً بينما هم يراقبونها فحسب و يحركون رؤوسهم كعلامة للعجز و الإستسلام، أقبل يداها تارةً و أترجاها تارةً أن تستفيق، حتى مدت يدها لي ببطئ و مسحت على شعر رأسي بخفة و همست بصوت أقرب للحشرجة منه إلى البحة "و لطالما تمنيت أن تقولها قبل فوات الأوان، أنا أيضًا أحببتك، شكرًا على كل شيء" و انزلقت دمعة باردة على وجنتها معلنة انتهاء آلامها و قد تركتني وسط ضجيج من كل شيء و اللاشيء، ضممتها لصدري لآخر مرة و أخبرتها بأنها ستكون الأولى و الأخيرة في حياتي، و تحت نُواحي و غضبي العارم و بين ذراعي فارقت روحها الطاهرة جسدها، و لم أشأ أن أفلتها حتى أحسست ببرودة مخيفة طغت على كل شبر منها، و حتى اختفى عبقها و ذبلت أزهارها و انطفئت أفكارها، و بالرغم من هيبة حضور الموت في تلك الغرفة إلا أنني حاولت و بقدر الإمكان أن أقنع نفسي أنه لم يكن هو، و أنها لا تزال حيّة، و سآتي لزيارتها غدًا و سأجدها تمسك بكتابها و تنتظرني بابتسامة سمحاء، لكن و بالرغم من موتها في نظر البعض، إلّا أنها ستبقى حيّة بالنسبة لي، و ستكون حاضرةً بين أوراقي و بين رفوف ذكرياتي، و ستضمها دفتي كتابي، و سأظل أتتبع تفاصيلها الصغيرة بأقلامي إلى آخر نفس من حياتي.

و في تلك اللحظة أيقنت أن الحب كالموت، فأن تذبل روحك و يموت نصفك و تتنفس دون أن ينبض قلبك و لا تأمل سوى أن يطرق الموت بابك و يأخذ بيدك لأسوء منه نفسه.

ودعتها مكرهًا، و حضرت جنازتها مكرهًا، و دفنت جسدها مكرهًا، و تمنيت لو أُدفن أنا أيضًا معها، و وددت أن يحتضنني التراب معها أيضًا، لكن ليس و كأن ساعتي قد حضرت حينها، فسيتحتم عليّ أن أتعايش مع فكرة غيابها لآخر لحظة في حياتي، و بأعين ذابلة و روح سوداوية و أفكار مبعثرة و دموع جافة و دم بارد و قلب شبه ميت تواريت عن الأنظار.

و منذ ذاك اليوم مازلت أحفر قبري بنفسي كل ساعة و ما زلت في حدادي الأبدي على روحها و لن يُنزع هذا الحداد سوى بتفشي رائحة الموت على جسدي، و مازلت كل يوم أصلي أن يقترب قدري، و مازلت أحتضن وجودها بين ذراعي كل لحظة و مازال عطرها يفوح في الأجواء، و كما تعلم تذاكر النسيان باهضة.

~~~

تمت.

© par.a.dise ,
книга «شِتات قلب.».
Коментарі
Упорядкувати
  • За популярністю
  • Спочатку нові
  • По порядку
Показати всі коментарі (7)
Orchid 99
شتات قلب.
عجزت عجزت عجزتتت اعلق والله انو كلماتك لا تصف حتى من جمالها وروعتها حسيت إني قاعدة أقرأ كتاب ورقي حقيقي ملموس ، حسيت بسلاسة وجمال في كل سطر بالرغم من كون القصة حزينة إلا أنها فائقة الجمال ♥ انت مبدع/عة جدا
Відповісти
2018-09-14 07:06:36
1
Ms. Kim
شتات قلب.
غابت كلماتي في حضور فخامة وغنى كلماتك، لا اجد ما اصف به سطور قصتك💕في انتظار جديدك
Відповісти
2018-09-15 19:25:13
1
Black flower
شتات قلب.
الوصف السرد الكلمات الفكرة العمق المعنى... كل شي راااااائع لا استطيع الوصف حقا ♥🖤😭
Відповісти
2021-05-23 22:00:58
Подобається