One shot
Extension..
One shot
الرسالة الأخيرة..

"لطالما حدقت بتلك اللوحة التي حَوَت صورته بين مُحيطها، طغت على هيئتها الالوان الداكنة وقد ظهر عليها علامة الزمن حتي صارت باهتة.
باهتة كحياتي التي لم يعد فيها حياة..
كالإنسان الآلي تمامًا جسدٌ متحرك، لكنه بلا روح.
سئمت تكاليف الحياة حتي اعتدتها بأثقالها وأحمالها.
صرت أتقبل كل شيء إيجابيا كان أو سلبيا دون مشاعر، دون ردة فعل فقط بلا مبالاه، فليحدث ما يحدث فنحن في نهاية لعنتنا تلك مصيرنا واحد.
لما نجتهد في أي شيء والنهاية معروفة، أخبرني ما قد تستفيده من المناضلة والمحاربة بينما تعلم ان مثواك الاخير هو التراب.
ماذا سيحدث ان استسلمت للالم؟ لا شيء..
فقط اصمت، وانتظر حياتك تنتهي بصبر.
او قم انت بإنهائها.
لذا، سيدي قارئ هذه الرسالة، أنا أود إخبارك أني قد قررتُ تغيير هذا الروتين ومحاولة فعل شيء مثير، لنضع علي تلك الالون الرمادية بعض من قطرات اللون الأحمر القاتم، لتمنحها فرصة للتنفس ولو قليلا.
وبابتسامة واهنة قررت أن أستسلم..
آسفة لأني سأترك هذا العالم المؤلم لكم وحدكم.

روزالين جينيفور"

***

كعادتها، ذهبت لجامعتها بتلك الملامح الشاردة تفكر فيما قد كان وفيما سيكون غير آبهة بالسيارات التي تطلق أبواقها لتفسح الطريق حيث كانت إشارة المشاة حمراء بالفعل، لكنها فقط لم تهتم.
وبفضل الموسيقي العالية التي تخترق اذنها عن طريق سماعات الأذن، لم تستمع إلى سُباب السائقين لها.. وحتي لو كانت قد سمعت إحداهن، على كل هي لا تهتم.

وصلت إلي وجهتها أخيرا، لتلج الجامعة من بابها ليتغير كل شيء تماما، هي الآن اصبحت شخصا آخر بكل ما تعنيه الكلمة، وجهها الباهت صار مشرقا، ابتسامة مُفعمة بالحيوية شقت وجهها، صوتها المرح ارتفع مُحيِّيًا كل من تراه سواء تعرفه أم كان من أولئك الذين ترى وجوههم من بعيد فحسب، لا مكان هُنا للشكوى والتذمر من مشاكل الحياة، فَفلسفَتها في الحياة تقتضي علي أن إظهار ضعفك نوع من التعري، فلا تعري ضعفك لأحد، وقد كان..
فقد حرصت علي إخفاء ذاك بداخلها جيدا، حتي كادت تصدق نفسها، رغم تلك العَبرة التي كانت ترفض موقفها هذا وبشدة فتمردت وعبرت السد القوي الذي كانت قد بنته لنفسها، فما كان منها إلا أن تظاهرت بالتثاؤب لتجد مبررا لنفسها أمام رفيقاتها..

ري ما: ياااا روزالين أنتِ بخير؟.
تسائلت صديقتها لتجيبها هي بابتسامة واسعة بينما تعيد بعض الخصلات التي تمردت إلى خلف أذنها.
روزالين: بلي لا تقلقي، أنا فقط لم أنم ليلة البارحة جيدا، فقد كنت أقوم بالتقرير الذي طلبه البروفيسر 'شيرويد'، تعلمين جيدا كم هو صارم في مثل هذه الأشياء.
سيا: آه أعلم بالفعل ولكن، ألم تكوني في المكتبة منذ أسبوع تقريبا تنهين ذاك التقرير.
روزالين: آه لم أستطع إنهائه حينها فالبروفيسر يطلب الكثير حقا.
وبِكَذبة أخرى هي بررت لصديقاتها، لتتجنب الأسئلة التي لا تود الإجابة عليها وبسهولة هي فقط انطلت عليهم ليهم الجميع بالذهاب إلى قاعة المحاضرات حيث كانت الساعة قد دقت العاشرة بالفعل.

وفي داخل القاعة كان البروفيسر يتحدث بأمور بدت لروزالين مملة للغاية كالعادة مما جعلها تمارس عادتها المفضلة، وهي السفر روحيا إلى مكان اخر او بالأدق عالم موازٍ بعيد عن هنا، ثبتت نظرها علي رقعة معينة من الجدار بينما تقطب حاجبها بتركيز، هكذا تبدوا للناظر إليها، لكنها ف الحقيقة لا تعي أي شيء مما يحدث حولها ولا تسمع ترهات هذا العالم.

****

في بعدٍ آخر كانت تمسك بفرشاتها وألوانها، لتلوث بياض اللوحة امامها بخطوط داكنة تبدو عشوائية ولكنها تعرف ما تفعل جيدا، لتنظر بعدها للوحة بابتسامة صغيرة راضية عن ذاك القلب الآدمي الذي قامت برسم انفجاره للتو، نهضت من مقعدها لتتراجع عدة خطوات للوراء لتلقي نظرة أخيرة شاملة على عملها الفني، لتصطدم فجأة بذاك الصدر العريض لتلطخ الالوان التي كانت في يدها معطفها الأبيض الذي ارتدته للرسم، التفتت سريعا لتري فتاها وقد اعتلت الابتسامة وجهه ليربت علي شعرها برفق.

هو: عدتِ مجددا لرسم هذه الأشياء يا صغيرة..
قالها لينقر علي جبهتها بسبابته بلطف بينما تتسع ابتسامته التي تتناقض مع موقفه الحالي منها متابعا حديثه:
هو: اسمعي.. انت فتاة رائعة روزا، ولكن عليكِ أن تبحثي عن الجمال بداخلك، وتحاولي باستماتة حتى تعم خضرته قلبكِ اليابس، حينها فقط سيكون كل شيء بخير، وتذكري دائما أني هنا إن شعرت برغبة في الهروب.. تذكري دائما أنني لن أتخلى عنك أبدا.

لسبب ما هي ظلت شاردة بينما تتيه في ابتسامته، في حين أنها قد شعرت باضطراب شديد قام بغزو قلبها ومعدتها لتبتسم بعدها بلطف بينما هبطت دموعها التي حبستها أخيرا، لتومِئ بثقة، فهو الوحيد الذي تظهر أمامه روزالين الطفلة التي اختفت بين زحام وصراع الشخصيات المختلفة والمتناقضة التي خلقها العالم بداخلها.

****

أفاقت كُليًا مِن شرودها ذاك عندَ سماع هتاف البروفيسر شيرويد باسمها للمرة الثانية، لتنهض هي واقفة سريعا.
روزالين: أجل بروفيسر.
البروفيسور: فيمَ كنت شاردة، إن كانت محاضرتي لا تعجبك يمكنك ألا تحضريها.
روزالين: للاسف كنت أرغب بذلك لكني لست في غِنى عن درجات الحضور.
البروفيسور: اذا.. احصلي علي درجات السلوك أيضا وتأدبي في حديثك آنسة جينيفور.
روزالين: اجل بروفيسر..
أومأت بخضوع بينما تسبه داخليا فلولاه الآن لكانت نائمة في منزلها، أو لنقل عائمة في فضاء اخر.

البروفيسور: يمكنك الصعود للمنصة وتقديم تقريرك الآن روزالين.
مجددا هي أومأت لتتحرك بتثاقل وتخرج اوراق تقريرها من حقيبتها وتتجه للمنصة حيث قال.
وبطلاقة بدأت شرح تقريرها بينما تقلب عينيها بين وجوه المستمعين دون اهتمام...

"كثيراً ما نسمع شخصا يصفُ آخر بأنه "مفصوم" لأنه متقلّب المزاج . لا يمكننا أن نقول أن كل متقلّب المزاج يعاني من إتفصام بالشخصية ، فكُلنا نعاني من ذلك بين الحين و الآخر لأسباب مختلفة هذا أولا، ثانيا مرض إنفصام الشخصية شيء و تقلب المزاج شيءٌ آخر وغير ذلك، فِصام الشخصية مختلف كذلك عن الإنفصام، فالإنفصام هو امتلاك الإنسان لشخصين بداخله كل منهما مستقل بذاته عن الآخر ولا تُدرك إحداهما ما تفعله الأخرى ..
أما عن فِصام الشخصية فهو بالمعنى البسيط عبارة عن مرض عقلي و نفسي مُزمن نادر يصيب 1% من الأشخاص يتمثل بتَغّير في طريقة التفكير و ببعض السلوكيات الخارجة عن المألوف للمريض ، كالخوف و العُزلة و البعد عن الواقع و البعد عن الحياة الإجتماعية. كما أنّ المُصاب بهذا المرض لا يُعد خطراً على المجتمع والأفراد ، فمن يعاني من هذا المرض يعيش في عالمه الخاص مُنعزلا عن الآخرين و يكون فاقدا للرغبة بأي شيء و مُنعدم الحافز و الطاقة، وربما يهيء إليه وجود أشخاص حوله لم يُخلقوا من الأساس ويبدأ بالتعامل معهم في عقله الباطن فقط و لذلك فهو لا يُشكلون خطرا على أحد ............. "

هكذا بدأت روزالين تقريرها الذي جذب انتباه العديد من الحضور والذي بدا لهم أنهم يستمعون إلى شخص قد مر بكل هذا الفعل، ليس مجرد تقرير قامت به إحدى طالبات علم النفس، ولكن ما لم يدركوه بالفعل أن روزالين نفسها قد شعرت بالشيء ذاته، رغم أنها لا يُمكنها تشخيص نفسها بأنها تعاني من انفصام، إلا أن هناك الكثير من الأمور التي تؤرقها دائما مما دفع إلى ظهور واضح لأعراض الإصابة بهذا المرض النفسي عليها..
تابعت تقريرها بتركيز وقد بدأت تعير بعض الاهتمام لردود أفعال القابعين أمامها لترى مدى تأثير حديثها علي أذهانهم..

"الخطر الوحيد الذي قد يهدد مريض الفصام هو الانتحار، حيث إنه لا يأخذه التفكير في هذا الشأن على أنه انتحار، فقط رغبة في قتل الشخص الشرير الذي يقبع بداخله ويستمر بإيذائه دائما جسديا ونفسيا، لذا يستمر في المحاولة باستماتة...."

وصمتت لوهلة عند هذه الجملة ليتردد بذهنها العديد من العبارات التي بدأت بتلك الاخيرة التي نطقتها ' المحاولة باستماتة.' كانت قد قيلت لها عدة مرات على ألسن أناس شتّى.

-حاولي باستماتة لتخرجي من هذا العالم المظلم.

-عليك المحاولة باستماتة، لا تيأسي.

-حاولي باستماتة ستكونين بخير.

-حاولي باستماتة، أنا معك لا تقلقي لن أتخلى عنك البتة.

-إياكِ أن تستسلمي، عليك المحاولة باستماتة ليمر كل هذا.. لا شيء يبقي على حاله.

-عليكِ أن تبحثي عن الجمال بداخلك، وتحاولي باستماتة حتي تعم خضرته قلبك اليابس.

قُذفت تلك العبارات لعقلها فجأة، بمجرد أن نطقتها مما دفعها للشعور برجفة بداخلها للحظات، بالإضافة إلى تلك الغمامة من الدموع التي جعلت الرؤية أمامها مشوشة للحظات قبل أن تغمض عينيها بقوة آخذة شهيقا عميقا لتعيد الاستقرار لروحها قبل جسدها الذي ارتجف لتفتحهما بعدها بابتسامة متابعة حديثها بقوة أكبر طاردة تلك الأفكار من عقلها..

"لذا يستمر في المحاولة باستماتة للتخلص من هذا الشخص بداخله الذي يقوم بتعذيبه نفسيا وربما يلجأ لعقابه بإيذاء نفسه جسديا ، وعندما تفشل مُحاولاته في طرد هذا الدخيل مانع الاستقرار النفسي بداخله، هو فقط يفكر بالتخلص منه عن طريق قتله، ليُفاجأ بعدها أنه قتل نفسه أيضا..
غير أنه قد يفكر في أنه بهذا سيذهب لحياة أخرى وحده مُخَلفًا جميع الشخصيات المتناقضة والمختلفة التي سكنته، تصارع هذا العالم الذي يراه مُوجعًا، بينما يرتاح هو دونًا عن التفكير والضغط."

هي لوهلة الآن أدركت أنها قد خرجت للتو بكلماتها الأخيرة خارج إطار تقريرها، وباحت فقط بما شعرت به في هذه اللحظة، هي حتى غير متأكدة إن كان هذا ينطبق علي مرضى الفصام أم لا، هي شعرت أنها تريد الحديث بما يختلج صدرها دون أن تشعر بالضعف أو الانكسار أمام أحد وأمام نفسها، ولذا ففي تلك اللحظة نَفت داخليا انتساب هذا الحديث إليها، وأقرت في قرارة نفسها أنها ما تفوهت بما قالته إلا بسبب تعاطفها مع ما قرأته عن معاناة المرضي مع هذا الجانب منهم، رغم أنها أكثر من عانت بسبب ذاك الأمر، لكن حصولك علي أحد أعراض المرض لا يعني أنك مِن مُصابيه، نعم بالطبع هو كذلك!

-لكن روزالين.. أنتِ تعانين من جميع الأعراض بالفعل.

=هذا غير صحيح كَون روزالين تلجأ للخيال أحيانًا للهروب من الواقع ليس يعني أنها تعاني فصامًا.

-ما قولك في حديثها مع نفسها ورؤيتها لأشخاص غير موجودين، والرغبة ف الانعزال الدائم وفقدان الشغف في أي شيء، الخوف من كل شيء، وبغضها لأي شيء اجتماعي.

=هي تحب أصدقائها بالفعل وتتحدث معهم وتنخرط في الحياة الاجتماعية سواء في الجامعة أو خارجها.

-اه بربك ألم تلحظي أنها لا تحب الزحام، وتكره الحديث مع الغرباء، وتشعر بالألم والانهيار الداخلي بمجرد وجودها في تجمع ولو بسيطٌ كان؟

~آه بسيط أم الإسفنجة بوب؟ >~<

-،= ما اللعنة!!!

*هلا صمتم قليلا، ألا ترون أن روزالين في خضم حديث مهم أمام الجَمْع؟ أنتم تشتتون تركيزها، لن يكون جيدا إن أخطأت بسبب حديثكم التافه الذي لا فائدة منه.

-أرأيتم؟ حديثنا جميعا هكذا بداخلها، يعد الدليل الأكبر علي أنها ليست إنسانة سوية، أليس كذلك روزالين؟

روزالين: بلى أنتم محقون.. علينا جميعا مساعدة من يعانون من الاضطراب نفسي بألوانه، سواء كان انفصام أو غيره، فهم أكثر من يعانون لا سيما في هذا المجتمع القاسي، الذي يستمتع بالتنمر والسخرية من الآخرين وفي أمور حساسة كمرضه أو حزنه مثلا..
لذا نحن هنا وفي هذا القسم تحديدا من الجامعة دورنا أن نقف بجانبهم وندعمهم حتى يعبروا ممر الحياة بسلام..

هكذا أنهت روزالين تقريرها لتنحني لمُستميعها، تزامنًا مع ارتفاع صوت تصفيقهم مُبدين إعجابهم بحديثها الذي لم يبدو لها أكثر من مقبول، لتنزل عن المنصة وتعود لمقعدها بشرود، وقد أصبحت فارغة تماما وتائهة كذلك بعد هذا الحديث الذي دار بداخلها بين أناس تجهل هويتهم، كل ما تعلمها أنهم هم من يُسَيرونها تحت مُسمى 'شخصياتها الأربعين' ، هي قامت باسكاتهم جميعا، حين كانت على المنصة، وبمجرد أن رحلوا بقيت هي مجوفة، تشعر بالحاجة الملحة للاحتواء، لذا لم يكن أمامها سوا خيارٍ واحد..

***

هو: لنذهب في نزهة!
قالها مباغتا إياها دون مقدمات، حيث لتظل هي محدقة في الفراغ للحظات مُحاولة تبين من تفوه بهذا للتو، قبل أن يظهر ظله يليه جسده الضخم لتصرخ بسعادة ما إن رأته لتقفز من مضطجعها قائمة.
تصرفاتها الطفولية كانت سيدة هذا الموقف حيث ظلت تصفق بيدها وتدور حول نفسها وهي تخال نفسها ويكأنها أميرة.
كانت تلك طريقتها للتعبير عن سعادتها لمَرْآهُ بعد وقت طويل، التي تبعتها سعادتها باقتراحه ذاك، فأخيرا يمكنها قضاء بعض الوقت بالقرب منه، والشعور بالسعادة ..

ولم تلبث إلا قليلا لتصبح برفقته في إحدى الحدائق العامة، ولكنها كانت فارغة من العامة.
وكأنها هُيئت لنزهتهما تلك لتصبح مُفتقرة لأي حشد قد يعكر صفو رحلتهم بأصواتهم وصياحهم وكذلك.. زحامهم.
كان كل شيء مثاليا بالفعل، ممدة علي الأرض ورأسها مستقرٌ علي ساقيه، وأنامله اتخذت سبيلها بين خصلات شعرها تداعبه برقة، أوراق أشجار الكرز كانت تتطاير بفعل نسمات الرياح التي هبت حولهم مُضيفة لمسة رقيقة من اللحظات الشاعرية لكلا منهما..
نظرت إليه بملامح يرى بها الرّائِي الاطمئنان والسلام الداخلي ما قد يزيل جُلّ الطاقة السلبية من الكون بأسره، وكيف لا تكون وهي بصحبته..
هكذا فكرت بينما تتأمل تفاصيل وجهه الملائكية أو هكذا بدت لها..
هتفت باسمه بخفة ليخفض رأسه قليلا ناظرا في عينيها لتنسى ما كانت على وشك إخباره به في لحظة تلاقي شعاعي نظر كليهما، واكتفت بابتسامة واسعة شقت وجهها، فيُداعب هو وجنتها بإبهامه مبادلا إياها الابتسام، لتبوح هي أخيرا بما أرادت.
روزالين: أنا سعيدة كونك هنا حقا، أنا أحبك.
أجابها هو بإنحناء سريع لجذعه العلوي وعلى إثره، قام بسرقة قبله لطيفة من شفتيها، ليعود لاستقامته الأولي تاركا تلك مُحمَرَّة الوجه والأنف لمباغتتها بهذه الطريقة، صانعة تعبير مصدوم ولطيف على وجهها.
قهقه على مظهرها اللطيف لتشيح بوجهها بعيدا بينما تبتسم داخليا شاعرة برفرفات الفراشات بمعدتها لتمنحها الشعور بالسعادة وأخيرا...

***

انتهى يومها الحافل بجامعتها، لتعود من حيث أتت..
لتعود إلى جحيمها، مسقط رأس الديكتاتورية والسادية ورمز لأي شيء بارد وخالٍ من الأمان، هكذا كان يُهيء لها منزلها بينما لا ترى أفراد عائلتها أكثر من كونهم خَزَنة الهاوية الموكلين بتعذيبك على كل الأمور السيئة التي لم تفعلها.
ربما تبالغ قليلا لكنه كان أبعد من أن يُطلق عليه مسكن ما، ففي قوانينها المسكن أو البيت هو المكان الذي يجب أن تشعر به بالطمئنينة والسكينة إن شعرت بعدم الأمان في العالم الخارجي، ولكن.. هذا لم يكن ليحدث أبدا هي فقدت الشعور بالأمان نهائيا من هذا العالم في أي مكان، مما دفعها للحصول علي شخصية مهتزة تخاف من كل شيء ومن أي شيء..
تراها واجمة وهي في طريقها لذلك المكان، تتمنى أن تصعد روحها إلى السماء قبل أن تصل لوجهتها.
وكما في كل مرة يخيب ظنها حين تطأ قدمها البوابة الحديدية للمنزل بينما لا تزال على قيد الحياة لتشعر باختناق يباغتها، لتحاول أخذ نفس عميق لتحافظ على ثباتها.
ما إن عبرت باب شقتها، اتجهت مباشرة لغرفتها لتلقي حقيبتها بإهمال على فراشها، لتسرع بتبديل ملابسها على عجلة فهي تعلم القادم بالفعل...
اقتحمت تلك السيدة التي هي على مشارف الخمسين لتبدأ بإلقاء وابل من الصراخ واللوم على مسمعها الذي لم تطرقه لها من الأساس، فقد قامت بحفظ هذا الحديث عن ظهر قلب حتى أنها تكاد تردد معها هذه الأشياء عديمة الفائدة، هي دائما ما أردات أن تجد دِفئًا يستقبلها عندما تعود من صراعها مع العالم في الخارج وصوتا يحمل من الحنان ما يحمل، يُخبرها أن كل شيء سيكون بخير، لكنها لا تجد سوى الاستقبال الصارخ على أتفه الأشياء، كعدم أخذ القمامة في يدها وهي في طريقها، أو أنها قد تأخرت خمسة عشرة دقيقة عن الوقت المعتاد لعودتها، مع بعض العبارات عن كم هي غير متحملة للمسؤولية ناهيك عن الكلمات التي لا فائدة منها غير إيحائها بالسلطة المطلقة لتلك المرأة في المنزل.
لم تعي أبدا على هذه الدنيا إلا وقد أدركت أنها تعيش مع زوجة أبيها، التي تطلق على نفسها مُربيتها، لم تشعر أبدا بشعور الأمان بين أحضان الأم التي تركتها رضيعة، لتذهب للحياة الأخرى وحدها لتجد مصيرها أمام من يمتلك قلبا صنع من الصخر، فقط أوامر ونواهي وعقابات وتحكمات، لا شيء آخر، ومع ذلك تطلق تلك المرأة علي نفسها أنها في مقام أمها لأنها من قامت بتربيتها حتى وصلت إلى هذا العمر، غافلةً عما يجب أن تحمله الأمومة من دفء وحب.
ولكن مع كل يوم يمر كان بغض روزالين يزداد شيئا فشيئا، وبعد سنوات من الجدال والمصارعات بينهما تنتصر فيها زوجة الأب كل مرة، قررت فقط تجالها وفعل ما تريد.

السيدة: روزالين.. أنت واللعنة لا تستمعين إلى ما أقوله هل أنا أحادث نفسي أم ماذا؟
بهذه الكلمات هي ذيلت محاضرتها، فما كان من روزالين إلا أن قلبت عينيها بملل قبل أن تجيب.
روزالين: أجل.. أجل فهمت سأفعل كل ما تريدينه، لا داعي لكل هذا الصراخ، دعيني من فضلك الآن.

قالتها محاولة إنهاء الحوار الذي طال أكثر من اللازم لمجرد أنها لم تقم بجلي الصحون ليلة أمس والسيدة الموقرة استيقظت من فراشها لتجد المطبخ غير نظيف، لا يا روزالين كيف جرؤت علي فعل هذا أنت فتاه سيئة حقا..
ولكن نتيجة ما قالته كانت..
السيدة: ما الذي تتفوهين به، كيف تخاطبيني بهذه الطريقة؟ أنا سيدة المنزل أسمعتي يجدر بك أن تقولي سمعًا وطاعة وأنفك مدسوس بالتراب هذا لأني في مقام أمك، وأنا في بيتي هنا أصرخ كيفما أشاء لا يحق لكِ أن ...
وللأسف ها قد بدأت محاضرة أخرى بطول التي سبقتها وربما ازدادت طولا..

-لمَ تصرخ تلك المرأة، لم أعد أحتمل هل علي قتلها فحسب.

=للأسف هذا لا يجوز، الأمر خارج السيطرة تماما.

-إلى أي مدى يمكننا الصبر على هذا البلاء.

~أرجوكم دعوها تتوقف، الصوت.. الصوت العالي لا أحتمل أنا خائفة للغاية.

*فقط اهدئن تعرفن أنها بعد قليل ستصمت وتخرج وكأن شيئا لم يكن، كفاكم جدالا.. أنتم بهذا تؤذون روزالين أكثر.

●فلنصلي جميعا لأن يمر الأمر بسلام ولا ينتهي بحظر التجول خارج المنزل مجددا.

=إن بقيت روزالين هادئة دون أن تفقد سيطرتها سيمر الأمر بسلام، لنأمل ذلك.

▪رفاق هل انتهيتم من التقرير المطلوب تسليمه بعد يومين.

×تقرير مجددا لمَ لا تحترق الجامعة فحسب.

*أنت لا تودين أن تحترق بالفعل وتجلس روزالين في منزلها طوال النهار أليس كذلك، لن يحتمل أي منا ذلك.

#ما اللعنة التي تتحدثون بها الآن أهذا وقته؟

~لم أعد أحتمل سأبكي.

-،=،•،* لااا إياكِ توقفي، ستسوء الأمور إن فعلتي..

=اهدئي عزيزتي انتظري حتى تخرج يمكنك فعل ما تريدين حينها، لن تكوني مسرورة إن ظهر ضعفك أمام أحد لا سيما هي.

~كلا.. أنا فقط س....

روزالين: يكفي هذا، لم أعد أحتمل يكفي ما أعانيه خارجا هلا صمتي قليلا.

***

لم يكن خيارا صائبا بالنسبة لروزالين التفوه بهذا، والنتائج كذلك لم تكن سارة البتة، لذا هي الآن تجلس في إحدى أركان غرفتها ذات الجدران الرمادية ضامة ركبتيها إلى صدرها بينما أخيرا.. هي تبكي بشدة.
رفعت القضبان عن ساتر عينيها لتسمح لعبراتها بالتدفق.
ذاك الطعم المالح الذي تشعر به على شفتيها يؤلمها بشدة، أكثر من أي شيء، فاقدة الرغبة في أي شيء في حاجة ملحة للاحتواء، أطرافها ترتعش وصدرها يعلوا ويهبط بسرعة لتشعر بالخوف الشديد فجأة.
اظافرها تشبثت بذراعها بينما تحاول احتواء نفسها حتي مزقت اكتاف قميصها.
عيناها صارت جاحظة تكادان تخرجان من مقلتيهما ودقات قلبها تُسارع الزمن، اختلطت دموعها بدماء شفتيها بعدما تمزقت بين أسنانها، هي تشعر بالذعر بطريقة لا تُوصَف.
باتت تشعر بالضغط الداخلي يتدفق خارجا حتي اشترك أنفها في النزيف مع شفتيها، ليزداد انتفاضها لدرجة لم تعد تتحملها.

"أمي."

انطلقت من بين شفاه روزالين المرتجفة لتبدأ حينها بالهدوء رُويدا رويدا لترفع رأسها ببطء لتحدق بتلك اللوحة أمامها، اللوحة التي حوت صورته بين مُحيطها، لترتسم تلك الابتسامة الهامدة على ثغرها وتنهض وكأنها من الأحياء الأموات لتتجه إلى حيث تقبع الصورة مُترنحة لترفع يدها ببطء لتتلمس أناملها وجه ذاك الشاب الذي قامت برسمه منذ أربع سنوات بالألوان الزيتية لمن يتربع على قلبها، ويسيطر علي تفكيرها.
'لُوي..'
لطالما شعرت بالسعادة بينما ترى ابتسامته التي ارتسمت على ثغره.. تحدق بها بالساعات دون كلل أو ملل، تلك اللوحة الشيء الوحيد الذي استطاعت تصدير ما في عالمها الذي كانَ إلى الواقع حيث جسدها، لذا هي ملاذها الوحيد هنا.
أراحت جبهتها على اللوحة بينما كانت جفت دموعها بالفعل..

"أمي.. أحتاجك الآن لمَ لستِ هنا، أشعر بالوحدة..
كل شيء صار بلون سواد السماء في ليلة غاب عنها ضَيُّ القمر، لا أكاد أرى سبيلي، لم أعد أقوَى على الصمود أكثر، لمَ لا ينتهي كل شيء فحسب.
أفتقد إلي عناق دافئ، تلك الحياة القاسية حرمتني حتي من شعور الأمومة تجاهي، لذا فقط أريدُك..
أمي، أشتاق إليك."

-إلى من تتحدثين أجننت؟ لا أحد غيرك هنا أفيقي من وهمك، من تتحدثين لها ليست هنا.

ولأول مرة تبوح روزالين بما في خاطرها، بصوت مسموع قبل أن تخرسها تلك الجملة التي أتت من مكان مجهول المصدر من داخلها..
لتتنهد بعدها بخفة وتستلقي على فراشها مُحدقة بالسقف، لتشعر بالفراغ..
الإعصار الذي كان بداخلها قد أعلن نهايته تاركا خلفه حُطامها متناثرا أشلاءٍ أشلاء.
كل مرة تأتيها تلك النوبة المرعبة تكون أسوأ من التي قبلها، حتى تشعر أنها النهاية حتى تلك اللحظة التي تشعر فيها بالفراغ الذي يحيط بها حتى لا تكاد تعي ما يحدث حولها...

***

كانت على حالها ذاك قبل أن يُفتح باب ويظهر أحدهم، لتلتفت إليه بينما تشعر بالثقل بكل إنش بجسدها، لكن ما إن رأته يدخل حتى ابتسمت لتقاوم شعورها هذا وتنهض لتجلس في استقباله..
بخطوات واثقة هو اقترب منها ليجلس بجوارها ليجذبها لذراعيه في حين اتخذت يده طريقها ليمسح على شعرها بحنان لم تعهده إلا معه.
روزالين: أخيرًا أتيت.. جون.
كعادته لم يجبها بل تركته يغمرها بالحنان الذي تفتقده دائما، بينما هو يشعر بالأسف لأجلها دون حيلة بين يديه.
أراحت رأسها على صدره بابتسامة بينما تضم نفسها إليه أكثر وعينيها تُغلق تدريجيا.. حتى لم تشعر بنفسها إلا وقد رحلت لعالم الأحلام بينما هي ممتنة لمجيء جون كثيرا.

قبّل رأسها قبلة دافئة كانت اخر ما شعرت به قبل أن تغط في النوم العميق، ليذهب هو من حيث أتى..
فلطالما شعر جون بالمسؤولية تجاهها ويْكأنها ابنته أو شقيقته الصُغرى رغم أن السُويْنَات التي تفصل يوم ميلاديهما ليست بالعديدة، كان أكثر من يشعر بمعاناتها ويحاول قدر الإمكان منحها ما تفتقر إليه دون أن يتسبب لها مشكلة، لذا في الغالب لم يكن يظهر إلا في أوقات كتلك.

***

اسبوع قد مر وهي حبيسة غرفتها، لا تكاد تتحدث لأحد، لم يكن ذلك بيدها، لكنه العقاب المناسب كما تقول مربيتها، وقد كانت سبع ليال ثقيلة، كادت تنسى بها لغتها حيث لم تنطق بكلمة مع نفسها حتى..
وفي ذات ليلة هي تناولت هاتفها، لتفتحه أخيرا ولكن فقط وضعته علي خاصية الطيران لتمنع تلقي أية مكالمات ، فعلى كلٍ لم تكن في حالة تسمح بالحديث لأحد.
فتحت برنامج محادثاتها ليصرخ هاتفها مستغيثا من كثرة الرسائل التي انهالت عليه فجأة بعد أن أُغلق لعدة أيام..
العديد من الرسائل التي تسأل عن اختفائها المفاجئ، والبعض الاخر يسأل عن أشياء تخص الجامعة لتتنهد بخفة وتقرر تجاهلهم جميعا.
كادت تغلق هاتفها مجددا قبل أن تغير رأيها وتقرر التحديث بقصتها..
"That's enough..let's die"

لم يمضِ سوى لحظات قبل أن يصدر هاتفها صوتا، معلنا عن ورود المزيد من الرسائل، وقبل أن ترى المرسل أغمضت عينيها مرددة بعض الاسماء، كمحاولة لتخمين من سيهتم للأمر، وبالفعل 80 بالمائة من تخمينها كان صحيحا، لتقرر أخير إجابة رسائلهم القلقة بكلمات تطمئنهم بها..

"لا تقلقوا يا رفاق أنا بخير، فقط عكفت بغرفتي لانهاء بعض الأمور، ولكن لم أنتهي بعد اه يا إلهي أي جامعة تلك التي تقوم باضطهاد طلابها واجبارهم علي العمل حتى يكادوا يفكروا بالانتحار، أين حقوق الإنسان؟ أين حقوق المرأة؟ ذكروني مجددا من نادى بحق المرأة في التعليم؟"

وبرموز تعبيرية ضاحكة أنهت بها حديثها أرسلتها لبعضهم بينما تجاهلت البعض الآخر، هي شاكرة للغاية للرموز التعبيرية تلك في لوحة مفاتيحها، والتي تتولى مهمة التظاهر بالتماسك وتريحها من هذا العبء قليلا، لا تحتاج لحبس دموعها التي كانت شقت طريقها على وجنتيها ..
وبالفعل سرعان ما انطلت عليهم خدعتها كالعادة، ليعودوا للحديث عن أمور شتى قبل أن تخبرهم أن عليها الذهاب لاستكمال مهامها وتغلق الهاتف مجددا، لتعود لعزلتها ولكن بحِمل أخف هذه المرة، فتظاهرها بأنها بخير، قد أشعرها أنها يمكنها الصمود أكثر دون إظهار ضعفها..
انتهى اسبوع العزلة أخيرا، واليوم لديها تكليف ما من قبل البروفيسور ..

عليها اليوم مقابلة شخصٌ مصاب ب'شيزوفرينيا' حادة..
هي عادة ما ترتاب من هؤلاء المصابون بالانفصام من هذا النوع، لكن في دَربِها للعمل كطبيبة نفسية لا مفر من التعامل معهم، لكن ما أقلقها هذه المرة حديث البروفيسور 'كالهانج' حين حدثها بأمر ذلك للمريض.

"ربما ستكون حالة المريض 'ماركيان' هي أغرب وأندر حالة ستقابليها في حياتك، لذا عليكِ التعامل معه بحكمة وتطبيق ما درستِه جيدا ودون انفعال، وتوخي الحذر جيدا."

كانت تفكر في كلمات البروفيسور بشرود في طريقها لجامعتها، حتى وصلت أخيرًا..
تنهدت بخفة بينما تُشهر قناعها المعتاد لترتديه، حسنا هي تبغض هذا المكان ولكن ربما هو الجحيم الأخف قذارة بين جحيم حياتها.
كان 'سو مي' و'مياكا' هما أول من التقيا بها بعد تخطيها حدود الجامعة للداخلة لتبتسم لهما بهدوء..
سو مي: يا فتاه أين كنتِ الاسبوع الماضي ولمَ لمْ تردّي علي اتصالاتي ، لقد شعرت ببعض القلق، فليس من عادتك تجاهل المكالمات الواردة اليكِ، والاختفاء فجأة بهذه الطريقة.
هكذا بدأت سو مي حديثها دون مقدمات، لتربت مياكا علي كتفها محاولة جعلها تخفف انفعالها قليلا، بينما روزالين فقط أجابتهم بهدوء بارد حوى الألم بين طياته، ما إن تذكرت تلك الليالِ الباردة التي قضتها وحدها رغم رغبتها في كونهم معها.
روزالين: كان علي بعض المهام وتعطل هاتفي لأيام، اعذريني، تعلمين اليوم هو أول طريقي للتخرج من سنتي الرابعة أخيرا، كان علي أن أعمل بجد الأيام السابقة لأستطيع التعامل مع المريض اليوم.
مياكا: دائما ما تُرهقين نفسك، لا شيء يستحق أن تُهدري صحتك، روزالين.
قالتها مياكا بعتاب بعد أن لاحظت الانتفاخ تحت عيني روزالين المحاطة بالسواد الذي لم يكن ليخفى عن الأنظار، لكنها فقط ابتسمت مجددا بثبات.
روزالين: عليّ هذا، حتى أرتاح فيما بعد.

-على من تكذبين روزالين؟ ترتاحين فيما بعد؟ أهذه طرفة الموسم.

وكأن سو مي وصل إليها هذا الصوت من داخل روزالين لتتنهد وتربت على كتفها بقلة حيلة.
سو مي: لا تقلقي روزا، لا شيء لا يمر.. كل شيء سيكون على ما يُرام.

-هه هذا لن يحدث، إياكِ أن تقعي لهذه الحماقات روزا، أنتِ أكثر من يعلم مصيرك المحتوم، لا هرب منه إلا بالموت.

=الموت!!

مياكا: .... هكذا أخبرني البروفيسور كالهانج منذ قليل.
قالتها مياكا مُذيلَة حديثها المُوجه لروزالين، والذي لم تعي تلك الأخيرة منه سوى الجملة الأخيرة منه بسبب متابعتها لحديث هذه الاصوات المجهولة النابعة من حيث لا تدري، ولم يكن منها إلا أن هزت رأسها مؤيدة لما قالته..
روزالين: اه كدت انسى، احزرن من أتى إليّ خلال الاسبوع الماضي؟.
مياكا: هل هو نفسه ذلك الشخص.
أومأت روزالين بحماس قبل أن تجيب.
روزالين: بلى إنه جون، آه لقد أتى إليّ قبل ثلاثة أيام تقريبا.
سو مي: هذا غريب لم نسمع منكِ أنه قد جاءك منذ مدة، ما الذي طرأ ليأتي؟.
ترددت روزالين قليلا بينما اهتزت داخليا لتنفي برأسها لتبتسم مجددا.
روزالين: كلا كلا، فقط أتى ليدعمني فكما أخبرتكن سابقا، اليوم هو أول تكليف لي.
حينها انضم كلا من ريما وسيا إلى حيث وقوف الفتيات، لتشكر روزالين لهذا داخلها، حيث التفت أربعتهن عنها، للحديث عن أشياء أخرى فهي قد نفدت الحيل منها، لتنتهز تلك الفرصة بعد لحظات مستئذنة منهم للذهاب إلى حيث تكلفيها في مشفى الأمراض النفسية المُلحقة بالجامعة ..

***
"استمتعي لي جيدا روزالين، أنت فتاة مجتهدة ومتميزة، لذا أسندت إليكِ الجامعة أصعب الحالات التي هنا، وأعني بذلك المريض ' ماركيان' لديه انفصام أو شيزوفرينيا حادة للغاية، يمتلك شخصيتان متناقضتان تماما، لذا أخبرك مجددا عليكِ توخي التحذر، وإن واجهت أي خطر، يمكنكِ استدعاء النجدة عن طريق كَبس الزر الاحمر أعلى يمين الباب."

تلك الكلمات التي خرجت من فاهِ البروفيسور 'كالهانج' أثارت حيرةً سرَى صداها في عقل روزالين لتنظر إليه بعدم فهم مُزجَ بخليط من التوتر والقلق لتتسائل.
روزالين: أي نوعٍ من الخطر قد أواجه أثناء مقابلة مبدئية مع مريض انفصام سيدي.
البروفيسور: ربما تكون إحدى شخصيتيه صعبة التعامل، لذا كوني واثقة من نفسك دون أن تتخلي عن الحذر في كل خطواتك.
لم تكن كلمات البروفيسور مطمئنة لها بما فيه الكفاية لكنها حافظت على رابطة جأشها لتومئ في ثقة حقيقية لتعطي لنفسها هي الطمئنينة التي تحتاجها لتتجه بعدها إلى حيث غرفة المريض..
'ماركيان زانج'.

***

"مرحبا سيد ماركيان، أنا أدعى روزالين سأكون رفيقتك في الحديث لهذا اليوم."

قالتها بمرح تزامُنًا مع دخولها الغرفة..
كان أول شيء قامت بتطبيقه مما درسته، هو:
"ألا تدعي المريض يشعر بمرضه، وإياكِ أن تعاملي المريض بروتينية الطبيبة، وكوني كصديقة تعاملت معه من عقود، كي يستطيع البوح لكِ دون تكلف."
رددت تلك القاعدة في ذهنها برضا تام عمّا قامت به للتو لتتجه للأريكة التي يحتلها الشاب الطويل الأبيض البشرة وتجلس بجانبه.
ليلتفت هو لها بابتسامة لطيفة كشفت عن غمازته في وجنته اليُسرى ليمُد يده ليصافحها.
ماركيان: مرحبا آنسة روزالين يُمكنك مناداتي ب'مارك' فقط.
ابتسمت روزالين لتفاعلها معه لتمد يدها لتصافحه هي الأخرى.
روزالين: ليس هناك داعٍ للألقاب بيننا، يٌمكنك مناداتي بروزا ، مارك.
مارك: حسنا روزا، تبدين لطيفة ومرحة كذلك، كم سنة من العمر تملكين.
روزالين: سأُتمُّ الثانية والعشرون بعد أسبوعين من الآن.
مارك: اوه، إذا عيدُ مِيلادٍ سعيدٍ مُقدما.

ابتسمت روزالين ليبادلها هو كذلك.
روزالين: آه شكرا لك، تبدو أنت أيضا لطيفا حقا.
مجددا ارتسمت على ثُغر ماركيان ابتسامة بدا بها الحزن هذه المرة.
ماركيان: الجميع يقول هذا عندما يراني للوهلة الأولى.
قالها لينحني للأمام قليلا ليشابك أصابعه ويحني رأسه للأسفل.
روزالين: لمَ تقول هذا؟.
قالتها مُعلنة عن بداية الحوار الطبي الصحيح مع مريض مصاب بالانفصام بينما تفكر كثيرا، كيف يكون لهذا الوجه البريء جانب مؤذٍ كما يُقال.
مارك: حسنا.. أنا لا أعلم تماما، لكنهم يقولون أني أفعل أشياء سيئة، لكني حقا لا أرغب بفعل هذا، كما أني لا أدرك إلى أي مدى يصل هذا السوء، لكني أرى فقط أنهم يتوهمون، أنا بالفعل لا أستطيع إيذاء ذبابة..
كانت روزالين تومئ مع كل كلمة يقولها وهي تدون ملاحظات عشوائية في دفترها بينما تفكر قليلا فيما يقول لتبادره بسؤال آخر.
روزالين:إذا أنت لا تدري عن أي شيء يتحدث هؤلاء.
نفى مارك برأسه يمنة ويسرى قبل أن تسأله السؤال التالي.
روزالين: إذا من يكون هؤلاء؟
صمت قاتل مر على كليهما قبل أن يتنهد مارك ويجيبها بهمس يكاد يصل لأذنها.
مارك: تلك من كانت حبيبتي..
في تلك اللحظة شعرت روزالين بالأسف الشديد لأجله لتترك كل شيء جانبا وتقترب منه لتربت على ظهره محدثة إياه برفق..
روزالين: لا تحزن مارك، سيكون كل شيء على ما يُرام.

-مجددا..يااا.

تجاهلت ذلك المنادي مجددا، محاولة صبّ جُل تركيزها على مهمتها الآن.
مارك: أتظنين هذا حقا؟
قالها بينما تحمل نبرته الكثير من الانكسار بداخله، لتبتسم له بود.
روزالين: نعم لا تقلق لا شيء لا يمر.

كان نقاشٌ حاد على وشك أن يُدار مجددا في عقلها إثر ما قالته للتو، ولكن مارك فاجأها بسؤال لم تتوقعه البتة.
مارك: ماذا عنكِ روزا؟ هل حظيتِ بعلاقة ارتباطٍ من قبل، أو لازلت حاليا؟
وكأنه حوار يدور بين رفيقين ليس حوار دائر بين مريض وطبيبته، تجمدت روزالين للحظات حيث أنك لو رأيتها لظننتها هي المريضة التي يُوجه إليها الأسئلة التي تضغط علي وترٍ حساس وليست الطبيبة البتة، ولكن هذا لم يطل قبل أن تعود لسابق عهدها مجددا وتجيب بابتسامة.
روزالين: بلى، لا زلت كذلك.
قالتها بينما ابتسمت بحنين واشتياق لينظر لها مارك بابتسامة بعد أن رأى هذا في عينيها.
مارك: حقا، ماذا يُدعى.
روزالين: يُدعى.. 'لُوي'
قالتها دون تردد بينما اتسعت ابتسامتها تلقائيا ما إن تقاذفت إلى ذهنها صورته، أو بالأحرى اللوحة المعلقة على حائط غرفتها والتي قامت برسمها له.
مارك: هو محظوظ حقا.
نظرت إليه روزالين ببعض الخجل قبل أن تتنحنح وتعود لأسئلتها مرة أخرى.
روزالين: إذا أخبرني مارك ما أكثر ما تبغضه في هذه الحياة؟
مارك: الأنانية، والتطفل، والتنمر ولكن بغضي لتلك الأشياء لا يُقارن بكرهي لهؤلاء الذين يُثبطون من عزيمة المرء إذا أَطلعهم على هدفٍ له.
روزالين: وماذا عنك؟ ما الشيء الذي تهدف إليه في هذه الحياة؟
مارك: أرغب في أن أكون شخصا ناجحا، وأن أوصل صوتي لجميع أنحاء العالم، لأخبر جميع من خَال أني سأفشل في حياتي أني نجحت، وأن أجعل والدتي فخورة بي وأنا بدأت أسعى لفعل هذا بالفعل ولكن...
وصمت قليلا لِتُدرك روزالين ما يجول بخاطره لتقرر تغيير الحديث قليلا.
روزالين: أشعر بالظمأ قليلا، سأذهب لأبتاع بعد العصير، أي مشروب تفضل؟
أجابها هو بعد أن نجحت بالفعل في تشتيت انتباهه عن نوبة الحزن التي كاد يدخل بها..
مارك: القهوة من فضلك.
اومأت لتذهب هي تاركة إياه في الغرفة بمفرده، بينما تراجع ما حدث بذهنها وترتب الأحداث بعقلها، هذه أول مرة تتعامل مع مريض حقيقي، ولكن مارك يبدوا مختلفا عما كانت تقرأ عنه دائما، هي تعلم بالفعل أن كل مريض مصاب بالشيزوفرينيا يمتلك شخصية طيبة ومسالمة للغاية، ولكنها شعرت أنها من كانت تتلقى العلاج وليس هو، فحديث مارك كان سراجا للأمل بالنسبة لها بدا حقا متلهفا للحياة وتحقيق الكثير، على خلافها هي التي زهدت في الحياة وتخلت عن رغبتها بكل شيء..

كانت تُفكر بشرود، بينما يتحرك جسدها بحركات روتينية حفظها جيدا وهي تبتاع المشروبات الغازية من آلة البيع المخصصة لها ومن ثم تتجه لماكينة القهوة لتملأ الكوب الورقي الصغير، وثم تعود أدراجها إلى حيث ينتظرها مارك بينما لا زالت تفكر في كلماته الأخيرة.
دخلت الغرفة لتفاجأ حيث لم تعثر عليه حيث عهدته قبل أن تذهب، لتضع ما بيدها على الطاولة التي تتوسط الغرفة أمام الأريكة حيث كان، لتلتفت بعدها تجول بعينيها في فراغ الغرفة حتى استقر بصرها علي الحيز الذي يشغله ماركيان بجسده الطويل.
كان يقف مُحدقا بلوحة أخفت مساحة غير كبيرة من الحائط خلفها، وقد كانت لوحة لأزهار حمراء تتدلى من إصيص في هيئةٍ وكأنها أوشكت على الذبول وقد بدى أنها لوحة قديمة نوعا ما.
هو فقط كان يُحدق بها دون أن يبدي أي حركة لتقترب روزالين منه ببطء.
روزالين: مارك، أحضرت لك القهوة ولكني نسيت أن أسالك عن كيف تفضلها، لذا أخبرني عن كَمْ كمًّا من التحليةِ تفضل؟
قالتها محاولة لفت انتباهه إلى مجيئها ولكن ذلك لم يُفلح، فلم يتحرك من مكانه حتى ظنته تصنم.
اقتربت منه مجددا لتمسك ذراعه برفق ولكن..
التفت في حركة مُفاجئة ما إن قامت هي بلمسه فلم تشعر بنفسها إلا وقدماها لا تكادان تلمسان الارض وقبضته تضغط على عُنقها بعنف حتي منع الأكسجين من دخول رئتيها.
روزالين: ماذا.. تفعل؟
قالتلها بصعوبة بينما كانت بشرة وجهها في طريقها للتحول للأزرق بالفعل بسبب اختناقها.
ماركيان: أنتم.. أنتم جميعا تريدون أذيتي؟ علي أن أتخلص منكم جميعا.
قالها بينما ملامح وجهه اللطيفة تبدلت كليا حتى صارت وكأنها تحمل في ضغائنها غِلّ أشرار العالم أجمع، لِتُدرك روزالين رغم موقفها الصعب أن ماركيان الذي كانت تُجالسه منذ قليل قد ذهب وحل محله هذا الشيء الذي يحاول قتلها.
ماركيان: أمثالكم لا يستحقون الحياة، يجب أن تتم إباداتكم حيث تُثقَفُون.
عينيه التي كانت خاملة منذ قليل، تستطيع أن تجزم الآن أنك تستطيع رؤية جَهنم بهما، عروقه التي برزت في أعلى يسار جبهته والجانب الأيمن من عنقه أضفت هالة مخيفة على مظهره، وقبضته التي تزداد شدتها مع كل كلمة يقولها.. كل ذلك كان بمَثابة الكابوس لأيًا كان..
وبصعوبة استطاعت روزالين تحريك ذراعها لتقوم بكبس الزر الأحمر الذي لحسن الحظ لم يكن عنها ببعيد، ليصدر جهاز الإنذار صوتا مرتفعا.
اتسعت عينا ماركيان بشدة ما إن صدر هذا الصوت ليفلت عنق روزالين من بين أصابع قبضته لتهوي تلك الأخيرة أرضا بينما تسعل بقوة بينما هو كذلك هوى على ركبتيه وقد وضع كلتا يديه على أذنه محاولا تجنب الصوت الذي دوى في المكان وهو يبدو عليه الذعر الشديد.
نظرت إليه بينما تلهث وقد غلبتها الحيرة من حالته لتحاول استعادة قواها الوقوف علي ساقيها مجددا تزامنا مع دخول فريق الاطباء المختصين ليحقنوه بمهدئ، ولم يمض لحظات حتى صار جثة ممدة على الأرض بينما روزالين لا زالت تحدق به ليدخل بعدها البروفيسور 'كالهانج'.
البروفيسور: روزالين، كيف جرى الأمر؟
التفتت إليه بينما تحاول استيعاب ما حدث لتخبره بكل ما جرى منذ دخولها الغرفة بعد جلبها القهوة ليومئ بتفهم.
البروفيسور: لم أتوقع أن يكون بهذه الخطورة من الجيد أنك استطعت التصرف سريعا، سأنتظر منكِ تقريرا عن حالة ماركيان في نهاية الإسبوع.
قالها ليخرج بعدها من الغرفة خلف ماركيان المحمول على النقالة بواسطة الاطباء لتلعن هي حياتها التي كانت علي وشك الإنتهاء ولكن قد تم إنقاذها للتو، لتخرج من الغرفة ومن ثم من المشفى تماما في طريقها للمنزل بينما...

-اللعنة لم كبَسَت روزالين ذلك الزر؟ كان بإمكانها تركه ينهي حياتها وينتهي كل شيء.

× يا الهي.. هي كادت تموت للتو وذلك العجوز الخرف يُخبرها بتقرير جديد عليها إنهاؤه.

=لن يكون مُريحا لها أن تنتهي حياتها بتلك الطريقة، لن تعيش ضعيفة وتموت ضعيفة كذلك.

• ما اللعنة التي تتحدثون بها الآن؟ اصمتوا فحسب؟ ألا تكفون عن الجدال؟

- ما قولكِ إذا فيما حدث؟

• ما حدث قد حدث، لا يهم أي شيء يحدث الآن فليتعفن كل شيء عن الجحيم.

= اليوم كانت مرتها الأولى في التعامل مع مريضٍ بحق، وأظن أن ما رأته كافٍ لإثبات أنها لا تعاني من أي انفصام أليس كذلك؟ هي بالنسبة لذلك الغريب طبيعية تماما.

-ولكن هذا لا ينفي أنها لديها اضطراب في الشخصية بالفعل، كما أنها أقرب في تصرفاتها إلى الفصام لا الانفصام.

=هذا غير صحيح روزالين سوية تماما.

# إذا من نحن ومن أنتم وماذا يُسمى حديثنا هكذا؟

=طبقا للدراسات، الذي يعاني من مرض نفسي لا يدرك هذا بتاتا، فكونها تفكر أنها من الممكن أن تكون كذلك ينفي ظنها.

-لكن روزالين دراستها تقتضي علي دراسة هذا النوع من الأمراض، فلا بد لها هي خاصة أن تُدرك إن أصابها شيء ما.

~يكفي الآن.. أخبركم بطرفة مضحكة؟

*ليس مجددا.

+ ياا بلى أخبريني، عوضا عن هذا الحديث السخيف.

~ماذا يُطلق علي النحلة التي تعيش في الولايات المتحدة USA ؟

+ماذا؟

~يطلق عليها USB.

قهقهت روزالين فجأة بصوت مرتفع لافتة نظر بعض المارة من الشارع لتلك المُختلة التي أصدرت تلك الضحكة بينما تسير في الشارع لوحدها، هم يرونها سفيهة العقل فلا أحد يُدرك ذلك الحديث الدائر في مكان ما هي وحدها من يسمعه ولكنها لا تستطيع إدارته ليهدأ كل شيء بعدها وتحتل دمعة مكان تلك الضحكة التي رنت منذ قليل.

-حقًا مختلة!

***

أثناء سيرها مرّت على عربة العجوز التي تقف هنا دائما تبيع المثلجات لتراه يَبتاع اثنتان ويتجه إليها بابتسامة.
روزالين: كيف عرفت أني سأكون هنا؟
قالتها بينما تبادله الابتسام وهي تتناول المثلجات من يديه ليجيبها دون أن يتخلى عن ابتسامته.
هو: كنتُ في طريقي لاصطحابك ولكن يبدو أنكِ كنت الأسبق في القدوم.
ضحكت بخفة ليسيرا بعدها جنبا إلى جنب بينما تتناول مثلجاتها بشرود وقد لاحظ هو هذا ليحيط كتفها بذراعه ضامًّا إياها له أكثر فتبتسم هي لفعلته دون أن ترفع نظرها إليه.
هو: صغيرتي.. أكل شيء بخير؟
أظهرت نبرته في الحديث القلق الذي يغمره رغم محاولته لإخفاء ذلك ولكنها استطاعت تميزها جيدا لتتنهد بخفة.
روزالين: لا أظن هذا، بات كل شيء باهتا ومتعِبا أكثر من المُعتاد.
كان الصمت هو رده حاثًّا إياها علي الحديث والبوح بما يختلج صدرها فهو يعلم أنه ملاذها الوحيد وهو كذلك الشخص الذي تستطيع البوح أمامه بما تشاء دون أن تحمل همّ التّعري أمام أحد، وربما يشاركه في هذا جون أحيانا كونها تعتبره شقيقها الأكبر لتتابع هي.
روزالين: بعض المشاكل والضغوطات والأحمال هنا وهناك وأنا فقط أتلقى كل هذا بصمت أشعر أني قد أنفجر يوما ما، جميعهم يخبرونني أن كل شيء سيكون على ما يرام، وألا شيء لا يمر ولكني لا أرى إلا الأشياء تزداد سوءا يوما بعد يوم، ولكن..
وصمتت قليلا لتتوقف عن السير فيتوقف هو معها أوتوماتيكيا بينما يُصغي لها باهتمام حيث رفعت رأسها لتنظر في عينيه مباشرة وتابعت...
روزالين: أنت هنا لذا لا شيء سيء يهمني، يكفيني عن كل هذا وجودك بقربي، والسماح لي بالبوح أمامك بكل شيء سيء بداخلي، لولا هذا الوقت معك لكان هؤلاء الأشخاص قد زادوا الأمر سوءا بمناقاشاتهم التي لا تنتهي إلا بوجودك.. شكرا لك.
من طبعه أنه قليل الكلام، يُجيبها دوما بأفعاله لا بلسانه، فما كان منه إلا أن اقترب منها على حين غرة ليجيبها بقبلة دافئة.. اختصرت الكثير من العبارات والمشاعر، بادلته إياها على الفور راغبة في الشعور بقربه قدر الإمكان، فهذه اللحظة من اللحظات التي تُكَلل في ذاكرتها، لذا رغبت في جعلها تمتد قدر الإمكان..

***

وصلت أخيرا إلى وجهتها وأعني بذلك منزلها، لتدلك رقبتها بألم، فأصابع ماركيان قد تركت من العلامات فوق عنقها ما تركت والتي قد تستمر في البروز فوق عنقها لأيام.
اكتشفت للتو أنها نسيت مفتاحها لتلعن مجددا بينما تطرق الباب ممنية نفسها ألا تفتح زوجة أبيها بالوعتها ما إن تفتح لها الباب..
طرقت الباب مرة أخرى ليفتح مع الطرقة الأخيرة ليبرز من خلف الباب جون.
دون تفكير ما إن رأته، هي حاوطت عنقه بذراعيها دافنة وجهها في صدره بينما ضمها هو بدوره.
عناق دافئ لطالما حلمت به عند عودتها للمنزل ولم تكن لتجده أبدا لولا وجود جون في حياتها.
جون: كان يوما شاقا؟
قالها بينما يمسح على رأسها ممرا يده حتى نهاية شعرها الذي يصل لبعد منتصف ظهرها بقليل لتشد هي على تعلقها بعنقه بينما تومئ برأسها دون أن تبتعد لينحني هو ويحملها بين ذراعيه حتى غرفتها ليضعها برفق على فراشها.
حاول الابتعاد بعد أن فعل ولكنها كانت لازالت متعلقة بعنقه فلم يجد بُدًا من الاستلقاء بجوارها وإخفاءها بين ذراعيه.
روزالين: جون.. غني لي.
فاجأته بطلبها قليلا، ولكنها كانت بحاجة لهذا الآن بشدة فصوته الدافئ هو أحد سبلها للانشطار عن الأشياء المؤذية بداخلها، ولم يخب ظنها عندما انساب صوته وهو يدندن ب'curtain' إلى أذنها لتشعر بالسلام النفسي أخير بعد يومٍ ازدحم بالمشكلات والصراعات النفسية.
أنامله التي تخللت خصلات شعرها أضافت إلى سلامها الشعور بالصفاء والاسترخاء ليبدأ النعاس باقتحام عينيها مجبرا إيها على الغطِّ في سُباتٍ هادئ لم يكن ليكون كذلك دون وجود جون في لحظة كهذه كالعادة، لهذا هي ستظل ممتنة له للأبد.

***

أفاقت في المساء لتجد جون قد رحل بالفعل، لتنهض بكسل بينما تتثائب لتتجه إلى الحمام، لتستحم محاولة تجديد نشاطها وتخلع ثيابها التي نامت دون أن تغيرها.
بعد أن انتهت هي خرجت من الحمام بينما تلف منشفة على جسدها وأخرى على شعرها ليكون أول ما وقع نظرها عليه لحظة خروجها هي تلك اللوحة لتبتسم بخفة لتظل تحدق به قليلا بشرود بينما يمر على ذهنها كل اللحظات التي قضوها معا..
نفضت رأسها سريعا عن تلك الأفكار لتبدل ثيابها وتجلس إلى حاسوبها، لتبدأ في العمل بالتقرير المطلوب منها.
أحضرت كذلك المذكرة التي كانت تدون بها الملاحظات أثناء حديثها مع ماركيان لتبدأ بتحليل كل شيء بها بانهماك.

ساعة مرت تليها الأخرى ولم تصل لشيء يذكر حتى أدركت أن الساعة على وشك أن تدق الثانية فجرا لتغلق الحاسوب في ملل وتعود لفراشها لتحدق في السقف بشرود بينما يمر أمامها شريط حياتها بذكرياته السيئة والجيدة لتتنهد في انزعاج من توالي هذه الذكريات لتفتح هاتفها محاولة إشغال نفسها بأي شيء، حتى غطت في النوم أخيرا قبل ميعاد جامعتها بأربع ساعات، لتستيقظ بعدهن على صوت منبهها لتنهض مستعدة للذهاب لجامعتها تلك أو بالأحرى لعنتها..

***

شيء ما قادها إلى الغرفة في المشفى حيث كانت أمس.. أرادت التأكد من شيء ما.
وصلت إليها لتدخلها وتجدها فارغة عكس ما كانت أمس، لتدور في أركان الغرفة تتفحصها وتلقي عليها نظرة شاملة كذلك قبل أن تستوقفها تلك اللوحة التي كان ماركيان يقف أمامها أمس قبل أن يتبدل حاله لما كان، ظلت تتأملها لوقت ليس بالطويل ولا بالقليل أيضا.. بدت لها لوحة قديمة لا شيء مثيرا بها، ولكن ما الذي جعل ماركيان يتحول ما إن رآها؟، اقتربت منها قليلا لتلاحظ شيئا لم تلحظه سابقا.
طلاء الزهرة الأحمر.. بسبب عوامل الزمن يبدو أنه قد كون طبقة جعل اللون يتقطر من الزهرة ليبدو وكأنها زهرة رطبة، ولكنها زهرة رطبة بالدماء..
روزالين: هل يعقل أنه بهذا السبب، هل يُعاني ماركيان من الهيموفوبيا؟؟ اه ولكن لا أعتقد أن هذا سبب كافٍ لتحوله لشخصيته الأخرى، أو بإصابته بتبك الحالة النفسية.
قالتها بتفكير محادثة نفسها بصوت مرتفع لترفع نظرها وتنظر حيث المصباح الأحمر الذي أُنيرَ حين ضغطت على الزر مصدرا صوتا مرتفعا بينما تذكرت حال ماركيان حينها.
روزالين: بدى مذعورا للغاية هل لحالته تلك دخل بذلك الأمر؟ لمَ قد يرتعب من شيء كهذا؟.. أيعقل أنه...
وصمتت قليلا لتتسع عينيها بعد أن عبرت في خاطرها فكرة، لتندفع بعدها مسرعة إلى البروفيسور كالهانج في مكتبه لتطرقه وتدخل بعدها سريعا.

روزالين: بروفيسور .. أرغب في الاطلاع على المعلومات الشخصية عن المريض ماركيان.
قالتها فور أن دخلت غير مهتمة بالتحيات او ما شابه لينظر لها البروفيسور بحيرة من أمر دخولها المفاجئ بهذه الطريقه ولكنه سرعان ما أخرج ملفا من درج مكتبه ليسلمه لها.
البروفيسور: هذه نسختك كان عليّ تسليمها لكِ قبل الان ولكن المعلومات عنه لم تكن مكتملة تماما بعد.
تناولته من يده سريعا لتسرع خارج مكتبه بعد أن ألقت على مسامعه عبارات الشكر المُوجزة..
واتجهت فورا بعدها لمكتبة الجامعة لتجلس بهدوء في أحد أركانها بجوار النافذة الزجاجية العملاقة تقرأ الملف بين يديها بحرص وتأني حتى عثرت على ضالتها أخيرا.
روزالين: كما توقعت!
ونهضت بعدها لتتجه إلى ركن التاريخ في المكتبة لتختار بعض الكتب بعناية وتعود لمكانها لتعكف على قرائتهم حتى عم المساء دون أن تجد ما تبحث عنه حتى الآن..

وقد مرت الساعات حتى تحول قرص الشمس للأحمر بالفعل، قبل أن تأتي إليها أمينةُ المكتبة، وتخبرها أن المكتبة على وشك الإغلاق وعليها الانتهاء سريعا..
لتومئ لها قبل أن تذهب، وتقرر إلقاء نظرة سريعة على ما تبقى في يدها من الكتاب بينما تشعر باليأس من العثور على ضالتها في الدقائق الأخيرة من جلستها تلك، ولكن ظنها خاب حين عثرت على العنوان الذي تبحث عنه في نهاية الكتاب بيدها لتتسع عينيها بحماس وتبدأ بالتهام الكتاب قراءةً وهي تُدون كل كلمة في عقلها جيدا.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة واسعة بعد أن وصلت لغايتها أخيرا.. ابتسامة النصر بعد معركة عنيفة خاضتها لتسرع راكضة خارج المكتبة، مقررة انهاء تقريرها عن حالة ماركيان الليلة والحماس يغمرها من رأسها حتى أخمص قدميها، وهي تكاد تقسم أنها لم تشعر بشعور به حيوية كهذا منذ قديم الأزل.

****

ما إن ولجت منزلها اتجهت لغرفتها وتفتح حاسوبها بينما أغلقت الباب خلفها بالمفتاح، تجنبا لأي إزعاج غير مرغوبٍ به حتى تنتهي..
تحركت يدها بفأرة الحاسوب لتفتح المتصفح وتنقر على لوحة المفاتيح بأناملها بخفة لتبحث عن مزيد من المعلومات عن السبب الذي تظن أنه السبب في إصابة ماركيان بالذي هو عليه الآن..

مذبحة رواندا 1994..

"شنت جماعة الهوتو والتي تمثل الأغلبية فى رواندا فى ذلك الوقت فى أبريل عام 1994 إبادة ضد الأقلية من توتسيى، حيث تم قتل ما يزيد على 800 ألف شخص فى فترة لا تتجاوز 100 يوم، باستخدام أبشع طرق التعذيب والاضطهاد، وتعرض مئات الآلاف من النساء للإغتصاب، ناهيك عن الغارات الجوية التي كانت تضرب البلدة من حين لآخر باستمرار.
وانتهت تلك الإبادة فى يوليو 1994 عندما نجحت قوة من المتمردين ذات قيادة توتسية يطلق عليها "الجبهة الوطنية الراوندية"، فى مواجهة المتطرفين وطردهم خارج البلاد، ورغم توقف هذه الإبادة إلا أنه لاتزال آثار تلك الجرائم باقية إلى يومنا هذا، حيث يعانى الناجون من تلك المذبحة من أمراض نفسية."

دونت روزالين مُلاحظتها عن كل ما قرأته عن هذا لتربط أخيرا كل شيء ببعضه، لوحة الزهرة المُدمَاه، صوت الإنذارِ الذي يُشبه صوت الغارات، ظهور شخصية ماركيان المُضمرة العنيفة عند رؤيته اللوحة وسلوكه الغريب الذي اتخذه عندما دوى صوت الإنذار..
كان طرف الخيط الذي التقطته وجعلها تصل لكل هذا عندما قرأت في ملف ماركيان معلوماتٍ عنه، حيث كانت كالآتي

الاسم: ماركيان زانج.
العمر: 27 عامًا.
الإخوة والأخوات: شقيق واحد فقط.
العائلة: أب وأم غير منفصلين.
الحالة الاجتماعية: غير متزوج.
محل الإقامة: نيويورك
مسقط الرأس: رواندا.
حياته الحالية: يعيش مع والدته فقط بعد مقتل والده وشقيقه الأكبر عندما كان في سن العاشرة.

كان قد مر عليها منذ وقت ليس ببعيد أثناء قراءتها بالمكتبة عنوان يخبر عن مذبحة رواندا، ولكنها لم تهتم حينها حيث لم تدرك أنها قد تحتاج إلى المعلومات عنها لاحقا، ولكن ها هي ذي قد عادت وبحثت عنه مجددا حين وقع بين يديها أحد الضحايا النفسية لتلك المذبحة، وقد شعرت بالأسف تجاهه، ققد أثرت تلك الفترة عليه كثيرا حتى أصيب بانفصام حاد في الشخصية، شخصية خائفة ولكنها مُتعطشة للانتقام تخرج من داخله عندما يتم إنعاشها بأي شيء له صلة بما حدث، فتخرج ولا تفرق بين عدو وصديق، هو فقط حينها يريد الفتك بأي شيء يقترب منه ظنًا أنه قد يتكرر ما لاقاه مجددا..

انكبت علي تقريرها تُنهيه، كتبت به كل ما توصلت إليه وتشخيصها لحالته ودونت كذلك بعض الفكر التي قد تُعينه على التعافي من مرضه ذاك.
قرأت ما كتبته مُجددا ما إن أنتهت لتبتسم لنفسها برضا، لتنهض واقفة من على مقعدها تمد ذراعيها لأعلى بكسل بعد أن كاد ظهرها ينثني من جلوسها الطويل على المكتب، ومن ثم تتجه إلى فراشها..
اليوم ستخلد للنوم بشعور مختلف، شعور بالإنجاز.
أخيرا استطاعت عمل شيء مختلف يكسر روتينها الممل..
روزالين: أخيرا يا لُويْ.. يوم مر دون بكاء، دون صراخ، دون حوار أحمق بين أشخاص يتصارعون بداخلي، هل حقا كل شيء سيكون بخير؟ شكرا لوجودك هنا لوي خاصتي..

حادثت اللوحة أمامها لتبتسم باتساع وتغط في النوم أخيرا بينما شعرت بالهدوء هذه الليلة دون نوبات ذعر أو ساعات من البكاء، بل بالشعور بالإنجاز والرضا عما قامت به من جهد..
آهٍ لو تستمر الحياة هكذا للأبد..

*****

لُوي: صغيرتي.. ماذا تفعلين؟
روزالين: أنا أُنهي بعض الإلزامات التي يجب أن أفعلها للجامعة..
هكذا بدأ الحوار بين روزالين والذي سَكَن كَيانها عندما باغتها بدخوله الغرفة ليجدها منهمكة في أعمالها المكتبية.
هو: أنا واثق أنكِ لها، ستنجحين وتبلين بلاءً حسنا، روزا..
روزالين: أتعتقد هذا حقا؟
تسائلت بينما رفعت رأسها لتنظر إليه، حتى كادت رقبتها تنكسر بالفعل، نظرا لطولِهِ المَهيب وجلوسها هي على المقعد مع قامتها القصيرة، اضطرت لرفع رأسها تسعين درجة ليلتقط بصرها ملامحه..
ضحكة صغيرة صدرت منه حين لاحظ هذا ليحني ركبتيه قليلا ليقترب من مستواها ويضع يده على رأسها بحنان ورفق.
هو: غير صحيح، أنا لا أعتقد، كما أخبرتك أنا واثق من هذا، سأكون معكِ وأدعمك حتى النهاية، عليكِ أنتِ أيضا أن تثقي بي..
روزالين: أثق بك، لُوي.. أنا أثق بك ثقة عمياء، ربما فَاقَتْ ثقتي بنفسي، إن خذلني الجميع وتركوني، أنت لن تفعل بتاتًا أليس كذلك؟.
سؤالها الأخير لم يكن إلا لزيادة يقينها يقينًا، فهي بالفعل تعلم الإجابة ولكنها تُحب سماعها منه ليفعل هو ما تُريد لينزل يده التي كانت على رأسها ويلتقط يديها الصغيرة بين أنامله..
هو: مُطلقا.. لا يُمكنني تَرك صغيرة مثلك وحدها.
قالها مُشاكسا إياها لتنتفخ وجنتيها بِتذمر، لتُشيح بوجهها بعيدا بانزعاج مُصطنع.. من الصعب حقا أن تنزعج منه أيًا كانَ ما فعل، وهو يدرك ذلك جيدا، ولكن من عادةِ الفتيات دائما أن يتصنعن أشياء ما، رغبةً في الحُصولِ على بعض الدَّلَال..
روزالين: لستُ صغيرة توقف عن مُناداتي هكذا.
هو: بلى أنتِ كذلك، هيئتكِ الضئيلة، يداكِ صغيرتان، قدماكِ، كقَدميْ الأطفال، حتى طول قامتَكِ تُشير لهذا..
روزالين: ومع ذلك لست صغيرة، وكُفَّ عن مُناداتي بالصغيرة وإلا سيصدر مني مالا يسُرُّك وأيضا..
هو: لسْتِ صغيرة، أنتِ صغيرتي أنا..
أخرسها هو بتلك العبارة لتصمت بعدها تماما مع تورد قليل لأنفها، وشعور الفراشات الذي يُلازمها عندما تكون بِصُحبته.

*****

كانت في طريقها لمكتب البروفيسور كالهانج لتَسليمِ أوراق تقريرها عن حالة ماركيان، قبل أن يستوقفها ذلك الفتى مُناديًا باسمها لتتوقف لتعرف ما يُريد.
كانت تعرفه جيدا، زميلها في الجامعة وفي القسم كذلك، لم يكن هناكَ علاقة صداقة تربطهما، ولكن القليل من الكلام كان يدور بينهما من وقت للآخر.
وقف أمامها ببشرته البرونزية الصافية، وشعره الكستنائي الذي يلائم تماما لون بشرته، كان طويلا بالنسبة لها حتى أنها لاحظت عضلات بطنه المنحوتة من فوق قميصه الرمادي الذي التصق بجسده بسبب نسمة الهواء التي هبت حولهم لتظهر جسده الرياضي بوضوح..
روزالين: ماذا هناك، تشارلي؟
تشارلي: كنت.. أرغب بالحديث معكِ بموضوع ما ألديكِ بعض الوقت؟
نظرت لساعة معصمها لتجد أنها بالفعل ليست على عجلة من أمرها لتُقرر أن تستمع له.
روزالين: بلى لا زال أمامي بعض الوقت ماذا تريد؟
تشارلي: آه هل سنتحدث ونحن نقف في منتصف البَاحةِ هكذا؟ لم لا نجلس في المقهى؟
لم تمانع روزالين ولم ترفض طلبه لتتجه برفقته إلا مقهى الجامعة ويجلس كل منهما مقابلا للآخر.
أتت النادلة ليطلب تشارلي الشاي المُثلَّج له، ومشروب الكاكاو الساخن بالنسبة لها.
شعرت بقليل من الحيرة من معرفته نوع مشروبها المُفضل، ولكنها لم تهتم لهذا كثيرا.
تشارلي: حسنا روزالين كيف حالك؟
روزالين: أنتَ لم تأتي بي إلى هنا لتسألني عن حالي أليس كذلك؟
بقليل من الحرج حكَّ مؤخرة عنقه بابتسامة متوترة ليحاول التحدث بعدها بثقة رغم صوته الذي أبى إلا أن يخرج مُصاحِبًا لنبرة مهزوزة.
تشارلي: نعم بالطبع.. احم أنا فقط أردت إخباركِ شيء ما.
قالها لتجيبه روزالين بالصمت منتظرة إياه أن يُتابع حديثه ليتنحنح قليلا مُتابعا..
تشارلي: أعلم إنكِ لا تعرفيني جيدا وأن لا تعامل وَطيدٍ بيننا ولكن فقط أنا.. أنا معك في القسم منذ العام الأول هنا، ودائما ما يلفت نظري شخصيتك المرحة والمُفعمة بالحيوية، وجِدِّك واجتهادك، ويجب أن أبدي إعجابي بتقاريرك ومشروعاتك، هي مُلفتة حقا وجاذبة للانتباه وتَنُم عن شخصية كاتبها.
هي من حديثه تنبئت بما أرادها لأجله ولكنها كذبت نفسها لتجبر نفسها على الإنصات له حتى النهاية..
تشارلي: روزالين.. أنا حقا حقا مُعجبٌ بكِ للغاية وأتمنى أن نصير معا.. هل تقبلين مواعدتي؟

رغم أنها كانت متأكدة من سماعها لهذه العبارة بِناءًا على مقدمته الطويلة، إلا أنها تفاجأت وارتبكت كذلك.
ولكن ليس من عادتها أن تظهر هذا أمام أحد لتتنحنح محاولة تدارك الموقف لتُجيبه بهدوء.
روزالين: تشارلي، أنت قد فاجأتني بالفعل لم أتوقع هذا أبدا ولكن.. يبدو أنك قد اخترت الشخص الخطأ.
تشارلي: كلا أنا واثق من اختياري جيدا..
تنهدت روزالين لتعلم أنه ليس سهلا لتصمت قليلا وثم تتحدث أخيرا.
روزالين: أظنك لا تعلم هذا، أنا لدي ارتباط بشخص آخر..
صدمة توقعتها ظهرت على وجه تشارلي، لم يسبق لروزالين أن تَم رؤيتها مع فتى نهائيا، حتى أنها لم تكن تفضل اتخاذ اصدقاء من الجنس الآخر لذا كان من الصعب أن تتوقع أنها قد تكون علي ارتباطٍ بأحد ما، وقد كانت مفاجأة شديدٌ وَقعُها على تشارلي الذي ظل يحدق بها مُنفرجَ الشفاه، عجز لسانه عن النطق للحظات قبل أن يتحدث أخيرا...
تشارلي: ك.. كيف هذا؟
مجددا هي تنهدت لتنظر له بفراغ داخلي وألم ينتابها عند الحديث عنه.
روزالين: آسفة تشارلي، أنا بالفعل أواعد لُوي وسنتم السبع سنوات معا قريبا، أنا حقا أأسف لأنك لم تكن تعلم.
تشارلي: من لُوي؟.
روزالين: شخصٌ لا تعرفه.
قالتها باختصار لتنهض بعدها معلنة عن إنهاء هذا الحوار لتُلَملِم أشيائها وتنهض تاركة تشارلي مُحطم، ومبعثر كذلك.
هي شعرت بالأسف تجاهه وتأنيب الضمير فهي لم ترد أبدا أن تكون السبب في أذية أحد رغم، أن الجميع هم أحد أسباب أذيتها..

شقت طريقها تجاه مكتب البروفيسور كالهانج لتطرق الباب وتسلمه تقريرها بهدوء.
لم يكن هذا الموقف هو ما دار في عقلها قبل مجيئها، فقد توقعت أن تسلمه للبروفيسور بحماس، وهي تخبره عن كل ما توصلت اليه ولكن بفضل جلسة تشارلي تلك هي فقط سلمته إياه بهدوء وتركته يقرؤه ورحلت لتسير بشرود دون هدف قبل أن تُقابل صديقاتها مجتمعين ليشرن لها فتذهب إليهن..
وجدَدْتهن يتحدثن عن ترتيب الذهاب لنزهة نهاية الاسبوع أو شيئا كهذا..
فقط هي تركتهن يتحدثن حيث شِئْن دون أن تتدخل ف الحوار فقط تهز رأسها مع حديثهن دون أن تبدي أي رأي، لتنتبه صديقتها إيلين لما بها لتُبَادر بسؤالها.
إيلين: ماذا بكِ روزا هل كل شيء بخير؟
روزالين: اه أظن هذا، حدث شيء غير مُتوقع اليوم لكن كل شيء بخير.
سو مي: ماذا حدث؟
تنهدت روزالين لتقرر أن تخبرهم، فهي لا تُمانع من الإفصاح التي تؤرقها من اشياء كهذه، فهن صديقاتها في النهاية.
روزالين: تشارلي قد طلب مُواعدتي اليوم.
سقططت فكوك الجميع من الصدمة، بينما ظَلَلن يحدقن بها قليلا.
ري ما: أنت لا تمزحين الآن ألست كذلك؟
روزالين: ليس من عادتي أن أمزح في شيء كهذا!
سيا: لكن أنت وتشارلي كان الحديث بينكما يكاد يكون معدوم.
مياكا: كما أن تشارلي محط أنظار الكثير من فتيات الجامعة، ولديه العديد من الأصدقاء، لم قد يطلب منك ذلك وانتما بالكاد تتحدثان.
سو مي: على كلٍّ.. ماذا أجبتيه.
روزالين: أخبرته بأمر لوي فحسب، آه أنا أشعر بالذنب لجعله يشعر بالسوء.
إيلين: لا بأس عزيزتي أنتِ لم تخطئي لا داعي لأن تشعري بالذنب.
وانتهى الحوار بينهن على هذا بعد تنهد روزالين واستئذانها لتذهب، حيث تركتهم لتعود لمنزلها وهي تشعر بحماسها الذي أُوقِدَ أخيرا يعود للانطفاء مجددا..
-عادت روزالين لبُهتانها من جديد..
وقبل أن تصل للمنزل وردها اتصل من سيا تخبرها فيه أنها ترغب في الحديث معها بأمر مهم، ورغم أنها لم تكن تقوى علي الحديث إلا أنها وافقت لتتفق معها علي الالتقاء في الحديقة قرب منزل روزالين، لتغير روزالين اتجاهها نحو الحديقة.

****

روزالين: لِمَ رغبتي في رؤيتي؟
هكذا بدأت روزالين الحوار بعد صمت طال وهي تجلس بجوار صديقتها سيا على المقعد في الحديقة لتتنهد سيا وتنظر لها مطولا قليلا وكأنها على وشك الحديث بأمر مصيري.
سيا: روزا، أنا هنا الآن لأصارحك بشيء لطالما أردنا جميعا إخبارك به.
بدت روزالين هادئة رغم العاصفة التي تدور بداخلها الآن التي تُنذر ببدء حوار لن ترغب به، لتتابع سيا.
سيا: روزالين.. عليكِ أن تُفيقي من الوهم الذي تعيشين به، يجب أن تفكري في حاضرك ومستقبلك، هذا العالم والوهم الذي تعيشين به يُدَمْرِك تدريجيا وأنت تنجرفين معه بعيدا عن الحاضر والمستقبل، روزا عليك بالتفكير بمنطقية قليلا، أنت تضيعين حياتك.
تأذت روزالين داخليا كثيرا إثر هذا الكلام الذي لم تفهمه ولم ترغب كذلك أن تفهمه، ولكنها ابتلعت لتشد على قبضتها محاولة التماسك.
روزالين: عن أي شيء تتحدثين، أي حياة تلك التي تضيع وأي وَهْمٍ ذاك الذي أعيش به.
نظرت لها سيا لِتُدرك جيدا ما تشعر به في هذه اللحظة لكنها تابعت حديثها بقوة بينما تظن أن هذه الطريقة المُثلى لجعلها تتوقف عما هي فيه وتعيش حياة طبيعية.
سيا: تعلمين جيدا ما أقصد، ما كان عليكِ أن ترفضي تشارلي اليوم لسبب كهذا. ولا أعني تشارلي حد ذاته بل أعني نظرتك للأمور أحقا لن تواعدي طوالي حياتك ولن تنظري لمستقبلك أبدا؟
روزالين: سيا أنا بالفعل أواعد لُوي، أنا ملكه هو فقط، وهو كل ما أملك.. حتى لو غاب عني لوقت ما فهو يعود في النهاية، لا يمكنني أن أتركه وأواعد أي شخصٍ آخر.
قالتها روزالين بحدة، أو هكذا حاولت أن تبوح بها، لكن صوتها خرج مهزوزا، وهي تحاول كبح دموعها فهي لم تعتد أن تتحدث عنه أمام أحد.
لتشعر سيا أنها وضعت يدها على وتر حساس للغاية لتقرر المُتابعة بقوة قاتلة.
سيا: أفيقي روزالين.. لا وجود لشخص يُدعى لُوي، ما هو إلا شخصية صنعها عقلك الباطن لتهرب من العالم الواقعي، لا وجود للوي هذا.. عليك أن تعي ما يحدث.
لم تتمالك روزالين نفسها هنا لتنهمر دموعها غير قادرة على التماسك أكثر من هذا، ليبدأ جسدها كذلك بالارتجاف وهي تنظر لسيا بِتِيه للتحدث بينما تُحدق بالفراغ وهي لا تكاد ترى منه شيئا بسبب دموعها.

روزالين: كلا كلا.. أنت تكذبين، لوي موجود لوي هنا معي دائما هو وحده من يعطيني الدفء والحنان، هو الوحيد الذي أشعر معه بالأمان لا يمكن أن يكون هذا كله وهم.. مستحيل، فأنا أراه وألمسه دائما، أنا أحدثه كل وقت، حتى.. حتى أني قد قبلته وشعرت به.. نعم أنا شعرت به بالفعل .. لا يمكن أن يكون كما تقولي لا يمكن..

بدأت نوبة الهلع تنتاب روزالين مجددا لتنظر لها سيا بأسف على حالها، ولكنها تابعت ظنا منها أن في هذا مصلحتها، فتابعت هذه المرة ولكنها حاولت أن تُضفي بعض اللين على حديثها.
سيا: روزالين عزيزتي، أنتِ فتاة رائعة تحتاجين لأن تحظي بالحب وتحصلي عليه، تحتاجين لأن تشعري بالأمان الحقيقي، ولكنكِ تحبسين نفسك بين جدران الوهم هذه، عليكِ أن تتحرري لتشعري بالأحاسيس الحقيقية، لا مجرد مشاعر وهمية مؤقتة.
لم تحتمل روزالين أكثر من ذلك لترفع رأسها وتنظر لسيا نظرة حملت من الذعر والقلق ما حملت، حتى أن سيا قد بدأت تقلق عليها لتصرخ فيها روزالين بكل قواها التي تحاول جاهدة السيطرة على وجودها.

روزالين: عن أي واقع تتحدثين؟ أي لعنة تلك التي يجب أن أخرج لأعيش بها؟ أعيش في واقع زوجة أبي أَم في هذا المجتمع الذي لا يرحم، أنا لا أثق بأحدٍ إلا لُوي.. الجميع وحوش يرتدون أقنعة، ينتظرون اللحظة المناسبة لإسقاطها وإظهار حقيقتهم البشعة..
أنا أخاف العالم لا يُمكنني الشعور بالأمان فيه بتاتا، لوي وحده من أسقطت جميع أقنعة تماسكي وتظاهري بالقوة امامه، هو من كان يمنح الطفلة بداخلي الشعور بالأمان والقوة لتستطيع المناضلة في هذا العالم.. لُوي من كان يمُدني بالطاقة لأستطيع التظاهر بأني بخير وسطَ هذا الجحيم.. تشارلي ذاك الذي تتحدثين عنه.. لم يرى سوى فتاه مُفعمة بالحيوية توزع الابتسامات على الجميع، أما لُوي فقط من استطاع رؤيتي.. استطاع رؤية روزالين الطفلة التي تختبئ بين أناس لا أعرفهم خلقهم العالَم بداخلي..
لُوي موجود.. ولوحته على جدار غرفتي دليلي على ذلك..

كانت روزالين تفقد السيطرة على نفسها شيئا فشيئا، حتى صارت في نهاية حديثها يخرج صوتها بالكاد إثر شهقات بُكائها الذي زاد حتى باتت لا تستطيع التقاط أنفاسها..
كان كل إنشٍ في جسدها يرتجف مع كل كلمة تنطق بها لتُحيط نفسها بذراعيها مُحاولة تهدئة روعها لكن لا فائدة..
حينها فقط شعرت سيا أن الأمر زاد عن حده لتتنهد وتقترب لتضمها محاولةً جعلها تهدأ، لكن روزالين استمرت على حالتها تلك حتى واصلت الساعتين تقريبا، لتهدأ بعدها تماما..

سيا: لا بأس عليكِ روزا، لُوي موجود بالفعل وستعودين للمنزل تجديه في انتظارك.
أومأت روزالين بضعف وتنهض حينها لتقف وتحاول السير.
روزالين: بلى، لُوي موجود بالفعل.. ولكن جون هو من سيكون بانتظاري في المنزل علي الذهاب حتى لا يقلق أكثر من هذا.
قالتها لتترك سيا خلفها تنظر لها بأسى وتجر قدمها جرًّا لتصل للمنزل.

#ما اللعنة تلك التي كانت تقولها سيا؟ هل حقا تظن أن علينا الانخراط بالعالم الواقعي.

-أي عالم واقعي ذاك أنا لا أعلم غير عالمنا الذي تكون روزالين متواجدة به مع لُوي، ما الذي كانت تقصده.

*لنواجه الحقيقى يا رفاق لُوي لا وجود له، هو من صنع خيال روزالين.

=اصمتي واللعنة ما الذي تقولينه أنتِ أيضا الآن أأصابكِ الخلل في عقلك.

-روزالين هي الوحيدة المُصابة بالخلل العقلي هنا.

×لا تنسوا يارفاق الذكريات الرائعة التي صنعتها برفقته، هو موجود، وذكرياتها موجودة..
اصمتوا ولا تدمروا كل هذا فحسب.

*لكن سيا كانت محقة في حديثها

روزالين: اصمتوا جميعا الان، تعفنوا في الجحيم!

هي صرخت بها في وسط الطريق لتُعلن رسميا أنها مختلة العقل لتتابع طريقها بترنح حتى وصلت للمنزل أخيرا، لم تعتد لتحتمل أكثر من هذا..
اتجهت لغرفتها وتهالكت على سريرها، فلم تعد قدماها تستطيعان حملها أكثر من ذلك.. كل شيء إسود في عينيها، حتى باتت لا ترى شيئا لتُتبِع ما حدث ساعة أخرى من البُكاء حتى خارت قواها تماما ولم تعد قادرة على تحريك أُنملَةٍ حتى..
وقد ظلت على حالها قرابة السِّت أو السَّبع ساعات، لم تُدرك حتى كم مر من الوقت وهي على هذه الحالة.

دخلت مُربيتها غرفتها لتراها على حالها ذاك ولكنها لم تكترث لها البتة، بل بدأت في تذمرها وتأنيبها المعتاد لغرفتها الغير مرتبة وأشيائها المبعثرة في كل مكان، لتتجه بعدها إلى حيثُ عُلِّقَت لوحتها الثمينة لتنظر لها قليلا بينما روزالين لا تملك الطاقة لِتُحوّل نظرها تجاهها حتى، لتتحدث السيدة بينما لازالت مكانها.
السيدة: هذه اللوحة صارت قديمة وباهتة ولم تعد كما كانت، عليكِ إزالتها أو القاؤها بعيدا..
واقتربت أكثر لتمسك اللوحة، لتتسع عينا روزالين عن آخرها حتى شعرت وكأن صاعقة من السماء قد هبطت عليها لتجعلها تنتفض واقفة فجأة بعد أن كادت لا تستطيع تحريك عينيها لتصرخ بأعلى صوتها..
روزالين: ' ابتعدي عنها، إياكِ أن تلمسيها.'
نظرت لها زوجة أبيها بصدمة بسبب إنفجار حنجرتها التي حدث للتو، لتتحول ملامحها للغضب سريعا وتبدأ برفع صوتها هي الأخرى.
السيدة: ماذا فعلتِ للتو؟ صرختِ بوجهي؟ أنتِ أيتها الوضيعة تصرخين بوجهي! ومن أجلِ ماذا؟ هذه اللوحة.. حسنا إذا لن تريْها مرة أخرى.
وأنهت عبارتها بأن انتزعت اللوحة بعنف من على الجدار بينما خرجت مسرعة بغضب.
وقد شلت الصدمة حركة روزالين للحظات، لم تكن تتنفس بها حتى، فقط مُحدقة بمكان اللوحة الذي صار فارغا لِتسمع صوتا من الحديقة فيتجه جسدها تلقائيا نحو النافذة لترى آخر ما كان يمكنها تحمله.
بعض الزيت سُكب على اللوحة التي حَوَت صورته، وعود من الكبريت لتشاهد روزالين اشتعال اللوحة أمام عينيها..
هي الآن تدمرت كليا، فلم تشعر بنفسها إلا وقد اصطدم جسدها بالأرض اصطداما قويا بعد أن خذلتها قدماها لتفقد الوعي بعدها تماما..

****

اقتربت منه بخطى خفيفة تكاد تكون مسموعة بينما يعبث بهاتفه لتحيط عنقه من الخلف علي حين غرة، هو تفاجأ للوهلة الأولى قبل أن يبتسم ليجذبها فجأة لتستقر على ساقيه ليحين دورها هي في المفاجأة، حين أدركت أنها بين ذراعيه الآن.
خفق قلبها بقوة بينما راودها هذا الشعور مجددا، الذي بات يُلازمها عندما تكون برفقته، اضطراب داخلي مع رجفة خفيفة.
رغم ما كان يسببه لها هذا الشعور إلا أنه كان دواءا قويّ المفعول بالنسبة لها.
فقد صار هذا كالإدمان بالنسبة إليها، رغم أعراضه الجانبية، هو كان سبب نسيانها ماضيها وتناسيها حاضرها، في حين أنها تتوقف عن التفكير فيما سيأتي لذا هي فضلت هذا على الشعور بأي شيء آخر.
دون كلمة هي فقط رأته يقترب تدريجيا من وجهها، حتي اختلطت أنفاسهما تقريبا، في حين أنها كانت الأسبق في اللهاث المصاحب لارتفاع الصدر وانخفاضه بسرعة، مع القليل من ارتجاف الكتفين في انتظار الخطوة القادمة والتي كانت تُدركها جيدا.
امتزاج شفتين بشغف ليتذوق كلا منهما طعم النعيم الذي لا ينضب.
كهرباء سرت في جسدها، تزامنا مع التصاقه بها لبرهة قبل أن يبعدها برفق عن حيث هو، لينهض من مجلسه ويناظرها بعمق في عينيها بينما احتلت قسمات وجهه ملامح تروي الكثير.
ملامح تصف التأنيب والأسف والحزن والألم.. ومن ثم هو فقط تركها دون أن يهمس ببنت شفهة.
لتنظر إلى الفراغ الذي كان يقف به قبل لحظات معانقة جسدها الذي صار يرتجف بشدة.
وبصوت مرتجف بين دموعها همست وشعور الخذلان يغمرها غمرا:
"وعدتني ألا تتخلى عني أبدا أين أنت؟ لِم رحلت؟"
وأنهت كلماتها القليلة بصرخة عالية شعرت أنها مزقتها داخليا لتتألم واضعة كلتا يديها على صدرها، هي فقط لم تعد تحتمل.

******

وأخيرا، لم أعي بنفسي إلا وأنا أمام حوض الاستحمام وقد أصبحت تلك الشفرة الحادة بين أناملي ترسم مخططتها الوهمي علي ساعدي لتبدأ الخطوط الحمراء بالظهور شيئا فشيئا حتي غطى السائل الأحمر يدي، لم تكن الدماء وحدها هي الشيء المائع الوحيد الذي خرج من جسدي، فقد اختلطت الدماء بالدموع، مكونة مزيجا من الألم النفسي الذي بلغ حده الأقصى فلم يهتم مركز الإحساس في عقلي بالألم الجسدي البتة، رغم أن كل جُرح كان يفوق الذي يسبقه عُمقا وطولا..

في تلك اللحظة، ظهر أمامي مجددا..
ليس لُوي، فهو قد انتهى بالنسبة إلي.. بل إنه جون، تلك النظرة في عينيه تخبرني ألا أفعل ولكن الأوان قد فات بالفعل..
جون أنت أيضا كَلُوي، لست من هذا العالم، أنت لا وجود لك ارحل أنت أيضا جون ودعني أنهي ما عزمتُ على فعله، أنت لست حقيقيا، ارحل..

اختفى جسده تدريجيا من أمامي لأنظر لدمائي وأقرر إنهاء الأمر تماما بعد أن كتبت رسالتي الأخيرة بالفعل ومن أهم ما قِيلَ فيها كان ...
"قررتُ تغيير هذا الروتين ومحاولة فعل شيء مثير، لنضع علي تلك الالون الرمادية بعض من قطرات اللون الأحمر القاتم، لتمنحها فرصة للتنفس ولو قليلا."

ليتني استطعت إخبار الجميع أنه لم أكن أنا.. لم أكن انا التي تبتسم دائما، لم أكن أنا التي تكون بخير عندما تخبرهم بذلك، لم أكن أنا التي أسهر الليالي لأنهي أبحاثي كما أخبرهم.. لم أكن أنا التي أتظاهر بالقوة.. بل كانوا هم..
ولأول مرة يتفقون جميعا.... جميعهم يؤيدونني في قراري.. لنُنهي كل شيء الآن..

-،=،+،#،*،•،×،'،~،▪: افعليها..

وقد كان..
غرزتُ الشفرة حيث المكان الصحيح بالعمق الصحيح، لأفعلها أخيرا ويتدفق الدَّم خارج جسدي كالطوفان..
غريب.. لا ألم، لا أشعر بأي ألم جسدي أو داخلي..
مما دفعني للابتسام.. وداعا لُوي، وداعا جون.
شكرا لوجودكم بجانبي حين كنت وحدي..
سأظل ممتنة لكم للأبد..
لم يعد لي طاقة.. بدأت أنسحب من العالَم تدريجيا..
"بابتسامة واهنة قررت أن أستسلم..
آسفة، لأني سأترك هذا العالم المؤلم لكم وحدكم."

*******************

انتهى...

ولكن.. لمزيد من التفاصيل وحلُّ بعض الأمور المُبهمة يمكنكم قراءة المُلحق ب'الون شوت' بالصفحة القادمة..

بعد مجهودٍ بذلته، لي رغبَةٌ بمعرفة ثِمَار ما زرعت..
وخير نتيجةٍ أراها هو رأيكم، فلا تبخلوا عليّ بآرائكم ولو كان في ذلك انتقادكم لما لا يُعجبكم..
شكرا لأنكم أعطيتموني من وقتكم الثمين لقراءة ما كَتبتْ.

لا تنسوا قراءة المُلحق فقد بذلت به بعضٌ من الجهد أيضا للقيام ببعض الأبحاث عن هذا..

وشكرا مجددا يا رفاق ..
إلى اللقاء..

© Sera Swing,
книга «لَم يَكُن أنا.».
Коментарі